رؤية التحديث في قطاع الطاقة.. بين وعود التحول وواقع الاختلالات البنيوية

نبض البلد -

هل يبقى أمن الطاقة رهينة الغاز المستورد واحتكار السوق؟

بلاسمة: سوق الطاقة لا يزال محتكرًا وأمن التزويد هش بفعل الاعتماد على الغاز المستورد
العساف: استمرار احتكار NEPCO وتعدد المخاطر الإقليمية يضع الاقتصاد في موقع هش

الأنباط – عمر الخطيب

منذ إطلاق رؤية التحديث الاقتصادي عام 2022، تصدّرت خطط إصلاح قطاع الطاقة العناوين والتصريحات، وسط وعود بتحول جذري يُعزز أمن التزود ويقلل الكلف، ويضع الأردن على خريطة التحول الأخضر في المنطقة. وعلى الورق، تبدو الإنجازات لافتة: مساهمة الطاقة المتجددة قاربت ثلث خليط التوليد، ومشاريع الهيدروجين الأخضر حصدت اتفاقيات بمليارات الدولارات، فيما تحركت خطوط الربط الكهربائي الإقليمي نحو شراكات استراتيجية.
لكن، بعد مضي ثلاث سنوات، تظهر فجوة ملحوظة بين ما تحقق وما هو مأمول. فعلى الرغم من التقدم في نشر مشاريع الطاقة النظيفة، لا يزال القطاع يرزح تحت وطأة اختلالات هيكلية عميقة، أبرزها الاعتماد شبه الكلي على الغاز المستورد، والاحتكار المؤسسي المتمثل بسيطرة شركة الكهرباء الوطنية (NEPCO) على السوق.
وقد جاءت التطورات الإقليمية الأخيرة لتدق ناقوس الخطر، مؤكدة أن أي اضطراب خارجي قد يُعيد القطاع خطوات إلى الوراء، ويحوّل ما يُروّج له من إنجازات إلى مكامن قلق.
ومع تصاعد التحديات، تبرز حاجة ملحة لإعادة هيكلة السوق، وتنويع مصادر الطاقة، وكسر حلقات الاحتكار، بما يحقق مرونة واستجابة أعلى في قطاع يشكّل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، ويؤثر مباشرة في كلف الإنتاج، وجاذبية الاستثمار، والعبء على المواطن.
في هذا التقرير، نُسلّط الضوء على مسار قطاع الطاقة بين 2022 و2025، ونفكك ما تحقق على أرض الواقع، دون أن نغفل الثغرات التي لا تعالجها المؤتمرات الصحفية أو الاتفاقيات وحدها. فهل تكفي الوعود المكتوبة لدرء رياح ساخنة قد تهبّ من خلف الحدود وتهز أساس منظومة الطاقة؟

نقاط الضعف: احتكار السوق واعتماد مفرط على الغاز
رغم ما تحقق من تقدم في قطاع الطاقة، لا تزال هناك جملة من نقاط الضعف والمعوقات التي تهدد استدامة الإنجازات وتُقيّد تحقيق الأهداف المعلنة في رؤية التحديث الاقتصادي.
في هذا السياق، يبيّن خبير الطاقة الدكتور فارس بلاسمة أن استمرار الاعتماد الكبير على الغاز المستورد من الكيان الإسرائيلي، الذي يشكل ما بين 70% و75% من الوقود المستخدم في توليد الكهرباء، يجعل أمن التزود بالطاقة عرضة لمخاطر سياسية واقتصادية خارجية.
ويضيف أن هيكل السوق لا يزال يحتفظ بطابعه الاحتكاري، حيث تهيمن شركة الكهرباء الوطنية (NEPCO) على منظومة الشراء والتوزيع، مما يجعلها تتحمل وحدها مخاطر التوليد من خلال التزامات شراء الطاقة بأسعار ثابتة وإعادة بيعها للمستهلك، وهو ما يضعها في موقف مالي هش.
كما أشار بلاسمة إلى غياب التنافسية الحقيقية، إذ تخضع عمليات التوليد لعقود طويلة الأمد دون وجود آليات سوق حرة، مع بطء في إدماج حلول التخزين والطاقة المرنة، مثل أنظمة البطاريات (BESS) والهيدروجين وإدارة الطلب. هذا بالإضافة إلى ضعف التنسيق المؤسسي بين وزارة الطاقة وهيئة تنظيم قطاع الطاقة وشركة الكهرباء الوطنية، ما يعرقل اتخاذ قرارات استراتيجية متكاملة.


التحديات الجديدة: هشاشة المنظومة وانكشافها للأزمات
وبرزت في الفترة الأخيرة تحديات إضافية زادت من تعقيد المشهد، خاصة بعد انقطاع مؤقت لإمدادات الغاز من الاحتلال الإسرائيلي، والذي كشف، بحسب بلاسمة، عن هشاشة المنظومة الطاقية نتيجة اعتمادها شبه الكلي على مورد واحد.
وأشار إلى أن العقود طويلة الأمد المبرمة مع شركات التوليد تحد من قدرة الأردن على التكيف السريع مع الأزمات، بسبب ما تفرضه من التزامات مالية وتشغيلية ثابتة. كما تعاني شركة الكهرباء الوطنية من عجز مالي وهيكل إداري يجعلها تفتقر للمرونة في التفاوض والمناورة، ما يُضعف من قدرتها على الاستجابة للصدمات الطارئة.

ما تحقق حتى منتصف 2025: تقدم جزئي وإنجازات متباينة
في مقابل التحديات، يلفت بلاسمة إلى أن رؤية التحديث الاقتصادي حققت بعض التقدم في قطاع الطاقة، خاصة في رفع مساهمة الطاقة المتجددة، التي بلغت نحو 29% إلى 31% من خليط التوليد، اعتمادًا على الشمس والرياح.
كما شهد الربط الكهربائي الإقليمي توسعًا محدودًا مع العراق ولبنان، فيما لا تزال المفاوضات جارية مع مصر والسعودية. إلا أن مشاريع الهيدروجين الأخضر، رغم توقيع مذكرات تفاهم، لم تدخل حيز التنفيذ، كما أن مشاريع التخزين لا تزال في طور الدراسات التجريبية دون حلول استراتيجية فاعلة.
وأشار بلاسمة إلى أن كلفة الطاقة ما زالت مرتفعة رغم إعادة هيكلة التعرفة، وأن السوق لا يزال يفتقر إلى تنافس حقيقي، مع استمرار هيمنة NEPCO وشركات التوليد الكبرى.

نقاط القوة: بنية متقدمة وتشريعات مرنة
في المقابل، يرى بلاسمة أن الأردن يمتلك مقومات واعدة تؤهله لريادة إقليمية في مجال الطاقة، من أبرزها قاعدة متقدمة من مشاريع الطاقة المتجددة، وبيئة تشريعية مرنة تسهم في جذب الاستثمارات، وشبكة نقل كهربائي كفؤة قادرة على استيعاب التوسعات المستقبلية.
كما أشار إلى أن الأردن كان من أوائل دول المنطقة في إدخال الطاقة الشمسية والرياح على نطاق واسع، ويستفيد اليوم من استثمارات سابقة في الربط الكهربائي مع مصر وفلسطين، ويعمل على تطوير هذا الربط مع السعودية لتعزيز استقرار النظام الكهربائي وفتح آفاق تصدير الطاقة.

ما يجب عمله: خطة استراتيجية عاجلة بخمسة محاور
وأكد بلاسمة أهمية إطلاق خطة استراتيجية مستعجلة لمعالجة التحديات الراهنة في قطاع الطاقة، تقوم على خمسة محاور أساسية هي إعادة هيكلة شركة الكهرباء الوطنية (NEPCO)، من خلال فصلها كمشغّل لشبكة النقل، ونقل مسؤولية استيراد الغاز إلى شركات التوليد، وإلغاء عقود "خذ أو ادفع” (Take or Pay).
إضافة لتنويع الوقود، عبر تسريع مشاريع الهيدروجين الأخضر، وتفعيل وحدات الوقود الثقيل، والتوسع في توليد الكهرباء من النفايات.
والمحور الثالث تأسيس سوق كهرباء تنافسي، يسمح بالصادرات والبيع المباشر للقطاع الصناعي والمؤسسات الكبرى. أما الرابع فهو إطلاق خطة شاملة للتخزين والطاقة المرنة، تشمل تركيب بطاريات بسعة لا تقل عن 300 ميغاواط، وتعزيز برامج إدارة الطلب.
أما المحور الخامس إعادة صياغة عقود شراء الطاقة، بما يعزز المرونة التشغيلية ويقلل من الأعباء المالية طويلة الأجل.

التوصيات السياسية: قانون وطني وتحفيز الشراكة مع القطاع الخاص
واختتم بلاسمة بتوصيات سياسية تضمن استدامة الإصلاحات، داعيًا إلى إقرار قانون وطني لأمن الطاقة يضمن مرونة التوريد ويحفز على الاكتفاء الذاتي، وإعادة هيكلة دعم الطاقة المتجددة ليكون مشروطًا بالأداء الفعلي.
كما شدد على ضرورة تحفيز شراكات القطاع الخاص في مشاريع التخزين والهيدروجين الأخضر بنظام BOT، وتعزيز دور هيئة تنظيم قطاع الطاقة، بالإضافة إلى تسريع إنجاز مشاريع الربط الكهربائي الثنائي الاتجاه مع العراق والسعودية ولبنان، لما توفره من استقرار للشبكة وفرص اقتصادية أوسع.

استيراد الغاز وتحديات الاقتصاد: عبء متنامٍ على الاستقلال الطاقي
من جهته، يُشير الخبير الاقتصادي الدكتور غازي عساف إلى أن الأردن يستورد أكثر من 80% من احتياجاته من الغاز الطبيعي، وغالبية هذه الكميات تأتي من الاحتلال الإسرائيلي بموجب اتفاقية وُقعت عام 2020. ويعتبر عساف أن هذا الاعتماد الأحادي يمثل إحدى أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه الاقتصاد الأردني، لما ينطوي عليه من ضعف في تنويع الشركاء الاستراتيجيين، الأمر الذي يحد من القدرة التفاوضية ويزيد من تكلفة الفرصة البديلة في ظل أي طارئ إقليمي.

غياب تنويع الإمدادات يهدد أمن الطاقة
وحول مفهوم أمن الطاقة، يؤكد عساف أن اعتماد الأردن على مورد واحد يتعارض مع المبادئ الأساسية لهذا المفهوم، الذي يستوجب تنويع الإمدادات وتعدد مصادر التزود. وأوضح أن انقطاع الغاز خلال فترات التوتر مع إيران كان له تأثير واضح على استقرار النظام الكهربائي، متسائلًا: "فما بالك لو استمر الانقطاع لفترة أطول أو تكرر ضمن أزمات إقليمية أكثر تعقيدًا؟”.

احتكار السوق وغياب التنافس: معوقات هيكلية تؤثر على الأسعار والكفاءة
وفيما يتعلق بتركيبة السوق، حذر عساف من استمرار احتكار شركة الكهرباء الوطنية (NEPCO) لقطاع الكهرباء، مشيرًا إلى أن هذا الوضع يؤدي إلى اختلالات اقتصادية عميقة. فغياب المنافسة يُضعف من حوافز الكفاءة التشغيلية، ويحول دون تبني التقنيات الحديثة، فيما يتحمّل المستهلك النهائي أعباء الأسعار المرتفعة الناتجة عن التكاليف الثابتة وغير المرنة.
وأضاف أن هذا النموذج لا يعكس الكفاءة الاقتصادية الحقيقية، بل يُبقي السوق رهينة لآلية تسعير غير تنافسية، تُعيق تدفق الاستثمارات الجديدة، وتُبطئ الابتكار في واحدة من أكثر القطاعات حيوية في الاقتصاد الوطني.

نحو إصلاح السوق وتنويع مصادر الطاقة
لضمان أمن الطاقة وخفض الكلف على المدى المتوسط والبعيد، يدعو عساف إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة، تبدأ بتحويل السوق إلى نموذج تنافسي يقوم على فصل أنشطة التوليد والنقل والتوزيع، والسماح بدخول شركات محلية وأجنبية جديدة، مع تحرير سوق التوليد تدريجيًا، وتنظيم عمليات النقل بما يضمن العدالة والشفافية.
كما أكد على أهمية تفعيل أسواق الكهرباء قصيرة الأجل (spot market)، وتعزيز استقلالية هيئة تنظيم قطاع الطاقة، وإعادة صياغة العقود طويلة الأمد بما يسمح بمرونة مالية وتشغيلية أكبر.

تنويع الوقود: ركيزة الأمن الطاقي
في الإطار نفسه، شدد عساف على ضرورة تنويع مصادر الغاز، عبر تسريع مشاريع استيراد الغاز المسال من دول عربية أو دول مجاورة، مع رفع حصة الطاقة المتجددة إلى ما لا يقل عن 45%، وتطوير تقنيات التخزين لضمان الاستقرار على مدار الساعة.
ودعا إلى توسيع شبكات الربط الإقليمي مع السعودية والعراق ولبنان، وتعزيز التوجه نحو الهيدروجين الأخضر والاكتفاء الذاتي، خصوصًا من مصادر الطاقة الشمسية الوفيرة، مع تسهيل دخول التكنولوجيا المتقدمة إلى السوق الأردني، ما من شأنه تقوية البنية التحتية وزيادة موثوقية الشبكة على المدى الطويل.