غزة تُهندَس والضفة تُبتلع.. سردية الأمن الصهيوني تخفي التهجير القسري

نبض البلد -
غزة تُهندَس والضفة تُبتلع.. سردية الأمن الصهيوني تخفي التهجير القسري 

 محسن الشوبكي 

في خضم الحرب المستمرة على قطاع غزة، وفي ظل التصعيد المتواصل في الضفة الغربية، تتكشف ملامح استراتيجية صهيونيه متكاملة لا تقتصر على الأهداف العسكرية المباشرة، بل تتجاوزها إلى إعادة تشكيل البنية السياسية والاجتماعية الفلسطينية، عبر أدوات محلية، عشائرية، وميدانية، مرتبطة بالاحتلال تهدف إلى تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية، وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، تمهيدًا لفرض وقائع ديموغرافية وجغرافية جديدة.

في قطاع غزة، ومع بدء الهجوم العسكري الواسع في ايار 2025، بدأ الكيان بالتوازي في دعم تشكيلات عشائرية محلية، بعضها يضم عناصر سابقة في اجهزة أمن السلطة الفلسطينية، مثل ما يُعرف بـ"حركة أبو شباب". 
هذه التشكيلات حصلت على دعم لوجستي وأمني وغذائي، وسُمح لها بالتحرك بحرية في مناطق محددة من القطاع، في محاولة لاستقطاب السكان وتقديم بديل عن حركة حماس. الهدف المعلن لهذه الأطر هو تآكل شعبية حماس، وتهيئة الأرضية لما يُعرف بـ"خطة اليوم التالي"، والتي تتضمن إقامة مناطق خاضعة للفحص الأمني جنوب رفح، وإنشاء "مدينة إنسانية" لتجميع السكان، وتشجيع الهجرة الطوعية من القطاع، ومنع عودة أي سلطة مركزية قوية سواء من حماس أو السلطة الفلسطينية. 
هذه التحركات تعكس رغبة الكيان في استثمار الفوضى الميدانية لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية والسياسية للقطاع، بما يخدم أهدافًا بعيدة المدى تتجاوز مجرد إسقاط حكم حماس.

أما في الضفة الغربية، فيسير الكيان في مسار موازٍ لكنه مختلف في الأدوات. منذ كانون الثاني  2025، أطلق جيش الاحتلال عملية "السور الحديدي"، وهي خطة لإعادة تشكيل الضفة الغربية ميدانيًا وأمنيًا، عبر الانتشار الدائم في مخيمات اللاجئين مثل جنين وطولكرم وعين شمس، وتحويلها إلى "أحياء حضرية" خاضعة للرقابة، ورفع عدد الكتائب العسكرية، وفرض سيطرة أمنية مشددة على مداخل المخيمات، مع دراسة هدم بعضها بالكامل واستبدالها بمناطق عمرانية حديثة. بالتوازي، دعم الكيان مبادرات عشائرية مثل مشروع "إمارة الخليل"، الذي طرحه احد أفراد من عائلة الجعبري يقيم في القدس المحتلة، ويهدف إلى إقامة حكم محلي عشائري يعترف بيهودية الدولة ويرفض السلطة الفلسطينية. ورغم الرفض الشعبي الواسع، إلا أن الدعم الصهيوني  الرسمي لهذا المشروع يعكس نية واضحة لتفجير البنية الداخلية للضفة، وتفكيك السلطة الفلسطينية من الداخل، عبر أدوات محلية.

في الوقت ذاته، صعّد الكيان من الاستيطان والاعتداءات على القرى الفلسطينية، وبدأت فعليًا في تنفيذ خطة ضم المنطقة (ج) بدعم أمريكي، مع تقويض السلطة الفلسطينية وحصرها في جيوب معزولة. وقد وثقت منظمات حقوقية تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من مخيمات جنين وطولكرم، بعد تدمير منازلهم والبنية التحتية، وتحويل هذه المناطق إلى مناطق عسكرية مغلقة، لا يمكن العودة إليها، في مشهد يعيد إلى الأذهان نكبة 1948، ولكن بأدوات جديدة وتحت غطاء أمني وإداري.

في الخلاصة، فإن ما يجري في غزة والضفة ليس مجرد رد فعل أمني أو عسكري، بل هو مشروع استراتيجي متكامل يقوم على تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية عبر أدوات محلية وعشائرية، وإضعاف السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى كيان إداري محدود، وفرض وقائع ميدانية في الضفة عبر الاستيطان والضم، وإعادة هندسة غزة بما يخدم الأمن الصهيوني ويمنع عودة أي سلطة موحدة. والأخطر من ذلك، أن هذه السياسات تصب في نهاية المطاف في خدمة هدف مركزي يتمثل في التهجير القسري للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء عبر الهدم والتجريف في المخيمات، أو عبر إنشاء مناطق عازلة وإنسانية مغلقة، أو عبر تشجيع الهجرة الطوعية تحت ضغط الحرب والحصار. إنها نكبة جديدة تُنفذ على مراحل، وبأدوات أكثر تعقيدًا، ولكنها لا تقل خطورة عن سابقتها، بل ربما تتجاوزها في قدرتها على فرض واقع دائم يصعب تغييره.