الجراح: من الحالات الوراثية الشائعة ونحاربه بالوعي
ياسين: التوعية تبدأ قبل الولادة والفحص يتم بين اليوم الثالث والرابع عشر
الصالحي: الصحة النفسية درعٌ واقٍ لتحسين جودة حياة مرضى التفوُّل
الأنباط – كارمن أيمن
تُثير الأمراض الوراثية قلقًا متزايدًا لدى الأهالي، خصوصًا تلك التي تُورث للأطفال وتظهر في مراحل مبكرة من حياتهم. ويُعدّ مرض التفوُّل (نقص إنزيمG6PD) أحد أكثر هذه الأمراض شيوعًا في الأردن، رغم كونه غير خطير إذا ما جرى التعامل معه بالشكل الصحيح.
ويؤكد أطباء أن المرض ناتج عن طفرة في الجين المسؤول عن إنتاج إنزيم "الجلوكوز-6-فوسفات ديهيدروجينيز” (G6PD)، الذي يلعب دورًا مهمًا في حماية خلايا الدم الحمراء من الإجهاد التأكسدي.
وبيّنوا أن زواج الأقارب يُعد من أبرز أسباب انتشار المرض، لا سيما في مناطق الشمال، مؤكدين أن الكشف المبكر والتشخيص السليم يقللان من تداعياته الصحية.
ويشير أطباء في الصّحّة النفسية إلى أنَّ الإجهاد والضغط النفسي يُمثِّلان محفزًا خفيًّا قد يطلق شرارة النوبات المؤلمة وهو ما يغفله الكثيرون، إذ أنَّ تمكين مريض التفوُّل نفسيًا يُعتبر أمرًا ضروريًّا لاستكمال العلاج من منظور الترابط بين الصّحّة النفسية والجسدية، لاسيما أنَّ الإجهاد التأكسدي حالة من الخلل تنشأ بسبب تراكم جزيئات ضارة تُعرف بـالجذور الحُرَّة، والتي تُتلف الخلايا.
ونتيجةً لذلك، فإنَّ وزارة الصحة تولي اهتمامًا فيما يتعلَّق بالبرامج الوطنية المسحية لحديثي الولادة، حيث تُقدِّم خدماتها بالمجان وتجري حملات توعوية من قبل كوادر صحية مؤهلة، إضافةً إلى جهودها في تثقيف الأُمَّهات قبل وبعد الولادة، موضِّحين آلية التعامل مع المريض وذويه في حالة الإصابة فيه.
أعراض التفوُّل
وفي هذا السياق، أوضحت استشارية الأطفال، الدكتورة أميمة الجراح، أن مرض التفوُّل يُعد من الحالات الوراثية الشائعة في الأردن، ما دفع وزارة الصحة لإدراجه ضمن الفحوصات الأساسية لحديثي الولادة، وهو ما ساهم في الحد من تفاقم الحالات.
وأضافت الجراح أن المرض يُورّث بين أفراد العائلة، ويُصيب الذكور بشكل أكبر نظرًا لارتباطه بكروموسوم X، موضحةً أن الطفل قد يُصاب حتى في حال عدم وجود تاريخ مرضي في العائلة، إما نتيجة طفرة جينية جديدة أو لكون أحد الوالدين حاملًا للجين دون أعراض ظاهرة.
وشرحت الجراح أن أعراض التفوُّل تتجلى عادةً في حالات النوبات، وتشمل اصفرار الجلد والعينين، شحوبًا شديدًا، بولًا داكنًا، تسارعًا في ضربات القلب، ضيقًا في التنفس وإرهاقًا شديدًا قد يستدعي الدخول إلى المستشفى ونقل الدم، خاصة في الحالات المتقدمة.
وأشارت إلى عدم وجود علاج شافٍ للمرض، إلا أن التعايش معه ممكن من خلال تجنّب البقوليات وبعض أنواع الأدوية، خصوصًا تلك التي تحتوي على مركّبات "السلفوناميد”، إلى جانب الابتعاد عن مصادر التوتر والضغط النفسي، لتفادي حدوث تكسّر مفاجئ في خلايا الدم الحمراء.
وبيّنت أن تكرار نوبات تكسّر الدم قد يؤدي إلى فقر دم انحلالي، خاصة إذا انخفضت مستويات الهيموغلوبين إلى أقل من 8، ما يتطلب أحيانًا نقل دم قد ينطوي على مضاعفات كالإصابة بالعدوى أو مشاكل في القلب.
ودعت الجراح أهالي المرضى إلى ضرورة إبلاغ الأطباء بوجود المرض عند أي تدخل جراحي، نظرًا لأن التخدير قد يُفاقم الحالة، ما يتطلب اتباع بروتوكولات طبية خاصة.
وأكدت في ختام حديثها أن وعي الأهالي بالمرض ارتفع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، مشددة على أن التفوُّل ليس مرضًا مخيفًا أو خطيرًا، بل يمكن التعايش معه بأمان إذا جرى تشخيصه في الوقت المناسب.
التعامل مع حالات الإصابة
من جانبها، أوضحت رئيسة قسم الوقاية من الأمراض الوراثية والخلقية في وزارة الصحة، الدكتورة سمية ياسين، أن التعامل مع حالات الإصابة بمرض التفوُّل، وسائر الأمراض الوراثية المكتشفة، يبدأ بتوعية الأهل بطبيعة المرض، والإرشاد حول الأغذية والعلاجات التي يجب على الطفل المصاب تجنّبها.
وأكدت ياسين أن الوزارة تولي أهمية قصوى للبرامج الوطنية للمسح الطبي لحديثي الولادة، والتي تُقدَّم مجانًا، مشيرة إلى أن هذه البرامج تشمل أيضًا تدريبًا مستمرًا للكوادر الصحية لضمان جودة الأداء وكفاءة التشخيص المبكر.
وأضافت أن الوزارة تعمل على تثقيف الأمهات الحوامل خلال الثلث الأخير من الحمل، وتشجّع على التوجّه المبكر إلى أقرب مركز صحي بعد الولادة، لإجراء الفحص المسحي، الذي يُفضّل أن يتم بين اليوم الثالث والرابع عشر من عمر المولود.
وبيّنت أن عملية الفحص تتم عبر سحب نقطة دم من كعب قدم الطفل، توضع على ورقة نشاف خاصة تحمل بياناته، ثم تُرسل هذه العينات إلى المختبر المرجعي في العاصمة عمّان، بعد جمعها من المراكز الصحية في مختلف المحافظات.
وأشارت إلى أن الفحص المسحي يشمل ثلاث أمراض وراثية هي: نقص الغدة الدرقية الخلقي، ومرض التفوُّل (G6PD deficiency)، ومرض الفينيل كيتونوريا (PKU)، مؤكدة أن الفحص الأولي يُجرى في المختبر المركزي، وفي حال الاشتباه بالإصابة، يتم التواصل مع ذوي الطفل وتحويلهم لإجراء فحوصات تأكيدية.
وأوضحت أنه في حال تأكد الإصابة، تقوم الوزارة بإصدار البطاقة الإرشادية للمريض، وتوفير الحمية الغذائية المناسبة، إلى جانب تقديم المشورة الطبية اللازمة للأهل.
وشددت ياسين على حرص الوزارة على نشر الوعي، من خلال توزيع البروشورات والبطاقات الإرشادية، وتعليق الملصقات التوعوية الخاصة ببرنامج المسح الوطني في جميع المرافق الصحية التي تقدم خدمات الفحص لحديثي الولادة.
التوتر والضغط النفسي
وفي السياق ذاته، أكد الطبيب النفسي الدكتور أشرف الصالحي أن مرضى التفوُّل يعانون من نقص في إنزيم "G6PD”، المسؤول عن حماية خلايا الدم الحمراء من الإجهاد التأكسدي، مشيرًا إلى أن هذا الخلل يزيد من حساسية الجسم تجاه عوامل التأثير البيئية والنفسية.
وأوضح الصالحي أن الإجهاد التأكسدي يحدث نتيجة تراكم جزيئات ضارة تُعرف بـ”الجذور الحرة”، التي تُتلف الخلايا، مبينًا أن التوتر والضغط النفسي المزمن يُعدّان من أبرز مُسببات هذا النوع من الخلل في الجسم، بسبب إفراز هرمونات مثل الكورتيزول والأدرينالين، والتي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة وتُحفّز إنتاج الجذور الحرة.
وأضاف أن مرضى التفوُّل قد يعيشون حالة من القلق المستمر تجاه المثيرات المحتملة للنوبات، وهو قلق لا يقتصر فقط على قائمة الأطعمة أو الأدوية الممنوعة، بل يمتد ليشمل مواقف الحياة الضاغطة، مما يفرض أهمية تعلّم مهارات إدارة التوتر وتقنيات السيطرة على القلق، لحماية خلايا الدم الحمراء الهشة وتعزيز قدرة الجسم على التحمّل.
وأشار إلى أن تمكين المريض نفسيًا يُعتبر ركيزة أساسية في الخطة العلاجية، وذلك من خلال التثقيف الواعي حول طبيعة المرض وآلية حدوث النوبات، بما يبدد مشاعر الخوف والارتباك، إلى جانب اعتماد أساليب استرخاء مثل ممارسة اليوغا والتمارين التنفسية.
ودعا الصالحي إلى تبني ما يُعرف بـ”إعادة الهيكلة المعرفية”، وهي إحدى تقنيات العلاج السلوكي، والتي تهدف إلى مواجهة الأفكار السلبية التلقائية وتغييرها بأخرى أكثر واقعية وطمأنينة. وقال: "بدلًا من التفكير القلق مثل: (أي موقف صعب سيسبب لي نوبة)، يجب استبداله بفكرة أكثر هدوءًا: (أنا أعرف ما يثير حالتي، وأمتلك أدوات المواجهة، وسأكون بخير)”.