نبض البلد -
حاتم النعيمات
على الأغلب أن إيران ستعود إلى وضعها ما قبل 1979 بعد معركتها مع إسرائيل التي حصلت في خضمها على دعم وتدخل أمريكي يُعتقد جديًا أنه استطاع إنهاء المعركة. محصلة الحرب الواقعية (بعيدًا عن الأوهام) هي أن إيران ربما خسرت برنامجها النووي على الأرجح، وتنازلت عن معظم أذرعها، وكُشفت/ فُقدت غالبية منظومتها الصاروخية البالستية. والأهم، هو تسجيل التيار الإصلاحي فيها انتصارًا مهمًا على التيار المتشدد وهذا ما قد ينعكس على الانتخابات القادمة، وقد يكون مقدمة لتغيير ناعم في هيكل الدولة الإيرانية.
ما يحتاج لتأمّل هو بروز مظهر جديد في علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل، فطوال عقود فائتة كان التصاق إسرائيل بأمريكا سيامي، أما اليوم فهناك ما يدعو للتفكير جديًا أن هذا التوأم قد انفصل، لأن أهم رسالة وصلت لإسرائيل منذ قدوم ترمب وتعامله مع ملفات المنطقة هي أنكم دولة ونحن دولة، وقد عبر عند ذلك خبير الأمن القومي الإسرائيلي "أوري بار يوسف" في كتابه "ما وراء الجدار الحديدي" عندما حذّر من الاعتماد الأمني المفرط على أمريكا. وقد بدا هذا الانفصال واضحًا من خلال عدم انجرار الولايات المتحدة إلى حرب شاملة في إيران، ومن خلال تعاملها المستقل مع الحوثي في اليمن. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن هذا الحلف انتهى، لا أبدًا، المقصود هو أن رتبة العلاقة بين الدولتين انخفضت بشكل قد يظهر أثره على المدى البعيد.
المُلفت هو ما عبّر ترامب صبيحة الهدنة، حيث قال حرفيًا : "إسرائيل، ما إن أبرمنا الاتفاق، حتى خرجوا وأسقطوا حمولة ضخمة من القنابل، لم أرَ مثلها من قبل. كانت أكبر حمولة رأيناها. لست سعيدًا مع إسرائيل”، وزيادة على ذلك برر في نفس التصريح لإيران خرق الهدنة؛ حيث قال إن الصاروخ الإيراني ربما أُطلق بالخطأ !!. هل تعلمون ماذا يعني أن يقول رئيس الولايات المتحدة "لست سعيدًا مع إسرائيل”، وأن يبرر لإيران خرقها لهدنة فرضها بنفسه؟
كاتب هذه السطور نشر مقالًا في 14 أيار الفائت على صفحات هذه الجريدة كان عوانه "بعد زيارة ترامب للخليج: هل يمكن منافسة اللوبي الإسرائيلي في أمريكا؟" وذكرتُ فيه أن السيطرة الكلاسيكية للوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة- لا سيما في الإعلام والمجمع الصناعي العسكري- لم تعد كما كانت، خصوصًا في ظل تحالف الجمهوريين اليوم مع شركات الطاقة والتكنولوجيا كبديل للمجمع الصناعي العسكري تماشيًا مع سياسة "اللاحروب” التي يتبناها ترامب. وذكرت أيضًا أن ما فعلته دول الخليج خلال زيارته الأخيرة أتى ضمن عملية تكوين جماعة ضغط حقيقية في أمريكا.
لذلك فمن الواضح أن ما حصل (الحرب الأخيرة) خدم دول الخليج القريبة جغرافيًا والمنظومة العربية أكثر من إسرائيل، نعم، فتدخل الولايات المتحدة كان على الأغلب لحماية مصالحها مع دول الخليج بالدرجة الأولى ومن ثم إسرائيل بالدرجة الثانية، فالخطر الإيراني الفعلي الواضح الذي أحاط بإسرائيل كان يتجسّد في الأذرع الإيرانية التي تم تدميرها أو إضعافها وليس النووي الذي يعتبر ملفًا دوليًا وليس إسرائيليًا، لكن الخطر النووي كان مباشرًا ومُحدقًا أكثر على دول الخليج العربي الشقيقة.
بتقديري، فإن هذه الحرب ستخلق بيئة قوية داخل إسرائيل لمراجعة كل ما حدث، خصوصًا إذا تلمّس العقلاء هناك أن العلاقة مع الولايات المتحدة ليست في أحسن أحوالها كنتيجة لسيطرة اليمين الإسرائيلي التي امتدت لعقود. وتوقعي أن حركة المراجعة هذه ستأخذ بالحسبان تحسُّن القدرة العربية على الضغط داخل النظام السياسي الأمريكي. في المقابل، فإن هذا كله يتطلب بتصوري وجود منظومة عربية "جديدة" تضع فكرة قيام الدولة الفلسطينية على أولوياتها، وتؤمن بأن رفع مستوى التنسيق العربي هو الخيار الأمثل لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية المتوقعة في المستقبل.
الأردن يجب أن يكون مركز هذه الحركة العربية، فنحن نعتبر أكثر المتضررين مما لحق بالقضية الفلسطينية بعد الانقسام الداخلي وبعد السابع من أكتوبر، ونحن تضررنا أيضًا من أذرع إيران ومواجهاتها مع إسرائيل (خصوصًا الأخيرة)، لذلك علينا أن نبذل جهدًا وقائيًا أكثر من غيرنا، إذ لا يمكن البقاء على نفس استراتيجية التعامل الحالية، ولا بد في هذا السياق أن نحسم الكثير من البنود العالقة في ملف الضفة الغربية، وأن نُسرّع عمليات تنقية الخارطة السياسية من المرتبطين بالمشاريع الخارجية للوصول إلى خارطة سياسية أردنية صحية فيها الموالاة والمعارضة لكن ضمن الواقع الأردني.
هناك معادلة جديدة في المنطقة يجب إدراكها بعمق ليتسنى لنا تصميم مشروعنا القادم في الأردن، ومتغيرات هذه المعادلة لم تعد خفية، وهي: أولاً، احتمالية تضرر علاقة إسرائيل بأمريكا على المدى الطويل، ثانيًا، ظهور مؤشرات قوية على ازدياد قوة اللوبي الخليجي داخل أروقة صنع القرار الأمريكي، وثالثًا، إمكانية حدوث تغيرات مهمة في إسرائيل فيما يخص قيام الدولة الفلسطينية.