من الإعفاء إلى العدالة الصحية المستدامة: تأمين شامل لمرضى السرطان في الأردن

نبض البلد -
من الإعفاء إلى العدالة الصحية المستدامة: تأمين شامل لمرضى السرطان في الأردن

المحاضر والمدرب بالتمكين السياسي والمشاركة المجتمعية: فارس متروك شديفات 
في ظل تصاعد التحديات الصحية عالميًا، وزيادة شكوى المواطنين من تراجع الخدمات في القطاع الصحي العام، وفي وقت بات فيه مرض السرطان من أكثر الأمراض فتكًا واستنزافًا للموارد والطاقات، قامت الحكومة مؤخرًا بالإعلان عن توفير تأمين شامل لعلاج مرضى السرطان.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن هذا البرنامج لا يُعدّ مجرد خطوة فنية أو مالية، بل يشكّل تحولًا اقتصاديًا واجتماعيًا، ومكسبًا وطنيًا يعزّز من ثقة المواطن بالدولة، ويؤسّس لعدالة صحية شاملة ومستدامة.
وفي ضوء ذلك، جاء الإعلان الرسمي عن تخصيص مبلغ 124 مليون دينار سنويًا من موازنة الدولة، من أصل 807 ملايين مخصصة للقطاع الصحي ضمن موازنة 2025، لتغطية علاج السرطان في مركز الحسين، والذي بات عنوانًا للثقة والاختصاص على مستوى الإقليم.
وبهذا، تكون نسبة مساهمة الموازنة العامة في هذا البرنامج الحيوي حوالي 15.4٪ من موازنة القطاع الصحي، في تأكيد واضح على أن صحة الإنسان لم تعد بندًا هامشيًا، بل أولوية حقيقية في السياسة العامة.
ولعل من المناسب أن نشير إلى الأثر الاجتماعي الكبير لهذا القرار، فقد شمل التأمين فئات كانت تشعر بالهشاشة والتهميش، مثل الأطفال دون سن 19 عامًا، وكبار السن فوق الستين، ومستفيدي صندوق المعونة الوطنية، دون قيد أو شرط.
وبالتالي، بات الحق في الحياة والعلاج مكفولًا، بعيدًا عن القلق والمشقة التي كانت ترافق عملية استخراج الإعفاءات.
ومن زاوية أخرى، يحمل هذا التحول في التمويل الصحي بُعدًا اقتصاديًا مهمًا، حيث الانتقال من الإعفاءات الفردية غير المستدامة إلى نموذج تأميني شامل يوفّر كفاءة أكبر في إدارة الموارد، ويُسهم في تقليل الإنفاق العشوائي.
وفي ذات السياق، فإن توجيه الجهد نحو مركز واحد متخصص مثل "مركز الحسين" يسهم في تعزيز كفاءة النظام الصحي وتخفيض التكاليف التشغيلية، وهو ما توصي به دراسات إصلاحات التمويل الصحي في الدول النامية.
وبناءً على تلك المعطيات، فإن البرنامج يُعدّ أيضًا نقلة نوعية في البنية الرقمية للخدمات الصحية، حيث سيتم إصدار بطاقة تأمين إلكترونية عبر تطبيق "سند"، لتسهيل الوصول إلى الخدمة، وتحقيق التكامل بين الجهات المعنية.
والجدير بالذكر أن هذا التحول الرقمي، رغم التحديات، يعكس إرادة الدولة في تحديث البنية التحتية للخدمات، وتوسيع قاعدة المستفيدين، مع تقليص الفاقد الإداري والبيروقراطي.
وعلى النقيض من ذلك، فإن استمرار تراكم المتأخرات المالية – والتي قُدرت بـ130 مليون دينار – قد يُشكّل تحديًا أمام استدامة البرنامج ما لم تُعالج هذه التراكمات جذريًا، وذلك عبر إعادة هيكلة المديونية الصحية وتحديد أولويات وجودة الإنفاق والصرف.
وفي ظل تلك المؤثرات، من الضروري أن تترافق هذه المبادرة مع تحسين نوعي للرعاية الصحية الأولية، وتوسيع دائرة الوقاية عبر رفع الوعي، والكشف المبكر، والسيطرة على مسببات المرض.
ومن الرؤى الداعمة لذلك، تُشير معظم الدراسات الصحية إلى أن البيئة العامة في الأردن باتت مثقلة ببعض مسببات السرطان، مثل تلوث الهواء والمياه النسبي، وسوء جودة الغذاء، وخاصة عند الفقراء ومتوسطي الدخل اللذين تتآكل دخولهم، بالإضافة إلى ارتفاع نسب التدخين المفرط.
وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على أن أي تأمين صحي شامل، ما لم يرافقه تدخل جاد وسياسات وإجراءات أكثر نجاعة للحد من مسببات المرض، فستبقى أعباؤه متزايدة، وأثره الاجتماعي محدودًا على المدى الطويل.
ومن زاوية أخرى، لا يمكن النظر إلى هذا البرنامج كاستحقاق نوعي، بمعزل عن السياق الأوسع للإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الأردن، فهو شهادة على مسؤولية الدولة، وقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص.
ونشير إلى أهمية إن نموذج التأمين الصحي الجديد لا يقدّم مجرد خدمة طبية، بل يعكس نسيجًا من القيم الدستورية والاجتماعية والإنسانية التي يستحقها الأردنيون جميعًا.
ولذلك، فإننا ندعو إلى مزيد من الشفافية في تطبيق البرنامج، وتعزيز المشاركة المجتمعية في مراقبة وتقييم الأداء، وتخصيص موارد إضافية للرعاية الوقائية، والبحث العلمي حول أسباب تفشّي السرطان.
ونشير إلى أهمية أن يشعر كل مريض، وكل مواطن، بأنه ليس وحده في معركته، بل خلفه دولة تؤمن بأن الكرامة الصحية ليست منّة، بل حقٌ راسخ وواجب لا يُؤجل.
فمن هذا المبدأ، فإننا نُثمّن هذه الخطوة، ونطالب باستكمالها بإرادة أقوى، وبشراكة أوسع، وصولًا إلى منظومة صحية وطنية قادرة، عادلة، ومستدامة.