عشة في وسط البلد ..

نبض البلد -
عشة في وسط البلد .. 

نعم تعلمت كثيرًا من الناس، وأؤمن أنهم الأساس، لذا يروق لي تأمل أحوالهم، ورؤية نفسي بينهم، وتحديد مكاني في زحامهم. زحام الكادحين الذين يجاهدون بلا كلل ولا ملل، ويحفرون في الصخر، كي يبقوا على قيد الحياة. 
لهذا آثرت العيش بين هؤلاء، رافضًا كل العروض التي تتابعت أمامي كي أسكن بعيدًا عن قلب "القاهرة"، وكلما تعجب أصدقائي من إصراري على البقاء في شوارع تضيق بالأقدام اللاهثة، أتلو عليهم الحكمة التي سمعتها ذات يوم من الخبير الاجتماعي  الراحل الأستاذ "على فهمي"، وأدركت معانيها ومراميها مع الأيام، حين قال: "عشة في وسط البلد أفضل من قصر على أطراف المدينة."
وإذا زرت دولة ما فإن أول ما يشغلني هو قلب المدن، النقطة التي نبتت أولًا، ثم قام حولها كل العمران، فهي مفتاحي لقراءة أي مدينة، كيف كانت؟ وكيف صارت؟ وإذا حجزت لي جهة تستضيفني في ندوة أو مؤتمر، يكون أول ما أسأل عنه هو مكان الفندق، فإن كان على طرف المدينة، سألت عما إذا كان من الممكن أن يكون في قلبها، فإن كان هذا متاحًا لا أتردد في الانحياز للاختيار الثاني.
ذات مرة قال لي الموظف التي أخبرني بالحجز:
ـ المؤسسة متعاقدة مع فندق فخم قريب من المطار.
ابتسمت وقلت له:
ـ هذا معناه أنني لم آت من القاهرة.
ثم سألته:
ـ هل تتعاقد المؤسسة مع فندق آخر في قلب المدينة؟
أجابني وهو يضحك:
ـ نعم، لكنه نجمتان فقط، بينما الآخر خمس نجوم.
قلت له:
ـ كثرة النجوم تغيظني، أريد النجمتين، وهذا سيوفر لكم بعض المال.
حين سألني عن سبب اختياري هذا، أجيبه بلا تردد:
ـ أريد أن أكون بين الناس. 
 طالما أردد بلا توقف: "الشعب هو صاحب المال والسيادة والإرادة والشرعية."، ويزداد إيماني بهذا كلما قلبت صفحات الحوليات التاريخية، لأرى كيف تمضي الحياة في بلادنا على أكتاف بسطاء، أنا مدين لهم بأشياء كثيرة في حياتي.
مدين لتجاربهم العديدة العميقة التي تصلح كل منها رواية لي، إن عرفت صاحبها أكثر، أو دراسة حالة في علم الاجتماع إن أدركت الظروف التي أحاطت بها بشكل أعمق، أو رأيتها ضمن اشتباكها مع تصرفات الآخرين ومساراتهم ومصائرهم.
لا أنسى أنني حين تركت مصر أربع سنوات لم أرزق فيها سوى بقصة قصيرة واحدة عن مجتمع الغربة، وكل ما كتبته كان حنينًا جارفًا إلى مسقط رأسي. في تلك السنوات كان يتهادى لي حلم متكرر في نومي، حيث أرى نفسي أرتفع عن الأرض، وأطير في الهواء، أرفرف بذراعيّ وساقيًّ وأعلو فوق شواشي النخيل، وتحت السحاب، لأرى بيوت قريتي الخفيضة تتساند على بعضها البعض بين الزرع والجسور، وتحت سماء حانية. بيوت رغم ضيق الحال، عازمة على أن تبقى في المكان على مر الزمان.
حين أستيقظ، أستعيد الحلم متلذذًا به طويلًا، وأقول لنفسي:
ـ إنه توق إلى الحرية، إلى البراح في رحاب قريتي، إلى أيام البراءة التي ولت.
وحين عدت من غربتي قلت لصديق، لم تطله حرفة الأدب، ونحن نجلس على المقهى، أنظر حولك، لتدرك كيف ألتقط قصصي؟ وكيف تلهمني وجوه البسطاء العابرين؟
كان المقهى في منطقة "أبو الريش"، جلس عليه ذات أيام بعيدة الشاعر "بيرم التونسي" طويلًا، وكتب، بعرق الناس على إحدى طاولاته المتداعية،ـ كثيرًا من قصائدة الجميلة. في المكان نفسه جلست بعد ظهر يوم جمعة، ورميت بصري فإذا بسيدة تحايل صغيرها الذي يتمرد على المضي معها في طريقها، تقف وتهدهده، وتحدثه بصوت يصل إلى سمعى، فيستجيب لها، ثم لا يلبث أن يسحب يده من يدها، ويتوقف راغبًا في العودة إلى الخلف، أو يجلس على الأرض متشبثًا بمكانه لا يريد أن يبرحه.
قلت لصاحبي ضاحكًا:
ـ هذه قصة قصيرة.
ولم تمض سوى دقائق حتى ظهر عجوز يحط على كتفيه عمودي عربة كارو، محملة ببضائع يوزعها على الأكشاك. كان يقف برهة، في وقدة الشمس الحارقة، يمسح عرقه بطرف جلبابه، ويعيد اتزان العمودين على كتفه، ثم يسحب على مهل، دون أن يئن. راقبته حتى اختفى تحت "الكوبري" الواصل بين حي "المنيرة" وحي "زين العابدين"، وقلت لصاحبي:
ـ حياة هذا الرجل إن أتيح لي معرفتها ستكون، دون شك، رواية واقعية بديعة.
أتذكر أنني فور عودتي، هرعت إلى "عربة فول" تقف في ساحة ضيقة بين البنايات التي تقع خلف ميدان "التحرير" بين شارعي "التحرير" و"محمد محمود"، ودفعت جسدي بين المتزاحمين، يأكلون في نهم. لم يكن بالنسبة لي طعامًا فقط، رغم أنني ظللت أشتهيه سنتين ونصف غبت فيها عن مصر قبل أول عودة، بل كان أيضًا طقسًا إنسانيًا في بلادي، إن تأملته أمدني بالكثير في دنيا السرد والشعر والاجتماع.
حتى الكتابة نفسها تحلو لي بين الناس. أقرأ عن كتاب يحتاجون إلى هدوء شديد حين يجلسون للكتابة، ومنهم من يفضل سماع الموسيقى، أو الإستغراق في طقس معين حين تحين لحظة الإبداع، فيخلع نفسه منه ويهرع إلى القلم والأوراق. بالنسبة لي فإن موسيقاي العذبة هي أصوات الناس في المقهى والسوق والحدائق. 
على المقهى يتصايحون وهم يلعبون الدومينو، أو يثرثرون جاذبين أطراف حكايات تمتد من كرة القدم حتى بؤس الأحوال المادية، وتمتد من الحواري إلى الإمبراطورية التي تتسيد العالم الآن بالمال والسلاح والإعلام، بينما مقعدي يكاد يلتصق بهم، أو يحيطونه من كل جانب، فإن انهمكت في الكتابة لا أسمع أحدًا منهم.
إنها عادة لازمتني منذ كنت أستذكر دروسي في دكان جدي، كما ذكرت سابقًا، ولهذا صاحبت الضجيج، روضته حتى صار أليفًا بالنسبة لي، منذ مواسم الحصاد ومصاطب السمر في قريتي حتى المقاهي والأسواق، مرورًا بمحطات الحافلات المكتظة بالذاهبين إلى أعمالهم والعائدين منها، وقطارات الدرجة الثالثة، التي تتحول فوق عجلات تجري إلى أسواق وموالد، وأفراح ومآتم. 
يتأفف كثيرون من الضجيج، لكني عرفت قيمته أيام كورونا، حين خلت الحديقة التي تطل عليها شقتي من أطفال يتصايحون في لعب، وعشاق يتجاذبون الغزل، وأسر جاءت في نهاية الأسبوع بحثًا عن أي براح وفرجة وبهجة وسط حياة تمضي شاقة في الشقق الضيقة. أيامها كنت أنظر إلى الحديقة من الشرفة، وأقول:
ـ متى يعود الضجيج الجميل؟
أشنف أذني إلى الناس، وهم يثرثرون ويتبادلون النكات والعتب، يختلفون حتى يقفوا على باب الشجار ثم تبرد الأعصاب الملتهبة فيهدأون وكأن شيئًا لم يجر، وألتقط من أفواههم عبارات أحسبها حافلة بالبلاغة العميقة، التي تأتي عفو الخاطر، أو تنبت على أكف تجارب الحياة المريرة. 
يحلو لي أحيانًا الذهاب إلى السوق لأتبضع من الخضروات والفاكهة وغيرها. أراقب المساومات بين المشترين والباعة، وألتقط نداءات الواقفين خلف عربات الكارو ورصات الخضر والفاكهة على ما يبيعونه، ونداءات سائقي "التوكتوك" الذين يلتقطون زبائنهم من على حواف الأسواق، وأمام المتاجر الكبرى. 
حكايات تزخر بها الحياة، كما زخرت في سنوات خلت، فإن قفلت راجعًا في شارع "المبتديان" أنظر إلى نهره غير الواسع، ورصيفيه الضيقين، وأقول لنفسي:
ـ كم من بشر مروا من هنا، وذهبوا حاملين حكاياتهم إلى المقابر.
وأغرق في اللحظة التي لن تدب فيها قدمي هنا، وأسابق الزمن حتى أفرغ ما في رأسي وقلبي من حكايات، وأنا أقول لنفسي مرة أخرى:
ـ أنتم الحياة أيها الناس.