الصحافة بغزة ليست وظيفة بل نوع من المقاومة
الحقيقة هي آخر ما بقي لنا ولو تخلّينا عنها تخلّينا عن أنفسنا
الأنباط – عوني عياصرة
لا يعيش خالد أبو عطيوي، الصحفي الغزي، صباحًا يشبه ما نعرفه عن الصباحات. وبينما يستفيق الناس في أرجاء العالم على ضوء الشمس ورائحة الخبز، يستفيق خالد أحيانًا في إحدى زوايا مستشفى وثّق فيه جريمة جديدة، وأحيانًا فوق أنقاض منزله، في الجزء الذي لم تطله القذائف بعد.
لا يبدأ نهاره بروتينٍ يمكن توقّعه، بل على صوت انفجار، أو صراخ ينفجر في قلب الظلام، أو على نبضِ مصابٍ يحتضر أمام عينيه. يغادر فراشه – إن وُجد – وهو يحمل يقينًا داخليًا بأنه قد لا يعود. يلقي على والديه نظرة طويلة تُشبه الوداع، ثم يحمل كاميرته كمن يحمل وصيّته، ويخرج.
يقول خالد إن حياته لا تخضع لروتين، فكلّ يومٍ يحمل وجعًا جديدًا ومفاجأة ثقيلة. لا يعرف أين سيتّجه، إلا حين يسمع انفجارًا أو تصله أنباء عن مجزرة جديدة.
"في غزة، لا تحتاج إلى خطة يومية، بل إلى شجاعة يومية”، يقول خالد. فهو يذهب حيث تُسرَق الحياة، حيث يملأ الموت المكان. يتنقّل بين المستشفيات والمقابر، بين الأبنية المنهارة ووجوه الأمهات المفجوعة. لا يحضر جنازةً إلا وقد غطّى قبلها مصابًا، ولا يوثّق إصابةً إلا ويتردد من بعيد نداء استغاثة آخر.
عدسة خالد ليست ترفًا صحفيًا، بل أداة نجاة لشعبٍ لا يُسمع صوته إلا حين تُنقَل مأساته على الهواء مباشرة. وهو لا يبالغ حين يقول إن الخطر "لا يفارقه”، لأن الكاميرا في غزة أصبحت مستهدفة تمامًا كالبندقية.
يروي خالد لحظة فارقة لاحقته فيها طائرة بدون طيار من نوع "كوادكوبتر”، فتحت النار عليه بشكل مباشر:
"كانت أقرب إلى مطاردة موت. لم يكن بيني وبين النهاية سوى خطوات وأزقة ضيّقة اختبأت فيها، وأنا أسمع الرصاص يرتطم بالجدران من حولي”.
هذه الطائرات لا تُفرّق بين مسلّح وصحفي. ما إن ترى سترة الصحافة حتى يصبح حاملها هدفًا مباشرًا، كأن الصورة باتت أخطر من الرصاصة.
المفارقة في حياة خالد أنه يهرب من القذائف لينقل للعالم صور من لم يتمكّنوا من النجاة. ورغم نجاته بأعجوبة، لا يشعر أنه عاد كما كان. ثمة ندبة داخلية تُخلّفها كل تجربة قريبة من الموت، خاصةً عندما تكون المطاردة فقط لأنك تمسك الحقيقة وتصرّ على أن تُسمع.
"ورغم القلق والموت المتربّص، لم أفكر يومًا بالتراجع”، يقول خالد، ويؤكد أن ما يفعله ليس وظيفة ولا مهنة تقليدية، بل رسالة يحملها عن قناعة ومسؤولية، حيث هناك أناس لا صوت لهم، وضحايا يُدفنون بصمت، وحمل وجوههم إلى العالم ضرورة، قائلًا: "الحقيقة هي آخر ما بقي لنا، ولو تخلّينا عنها، تخلّينا عن أنفسنا”.
ورغم كلّ هذا القبح، يختزن خالد في ذاكرته لحظات توازي الألم في شدّتها، لكنها مشبعة بالفخر. يستذكر اليوم الذي قرّر فيه أن يفتح حسابًا على "إنستغرام” لنشر صور تغطياته، ولم يكن يتوقّع أن يتلقى هذا التفاعل الواسع من الناس من مختلف الجنسيات، ممن كتبوا له عبارات دعم ودعاء لأهالي غزة.
لكن ما لن ينساه أبدًا، موقف بسيط بالغ التأثير: "في أحد الأيام، كنت أتنقّل في أحد الشوارع، فتقدّمت مجموعة من الأطفال نحوي، وقالوا إنهم يعرفونني ويتابعون ما أنشر. أرادوا فقط أن يصافحوني. كانت لحظة صامتة، لكنها أقوى من أي خطاب”، يقول خالد، وقد شعر حينها أن كل خطوة خطاها، وكل صورة التقطها، لم تذهب هباءً.
ولأن غزة ليست مكانًا يسمح للصحفي بالعودة إلى البيت دون أن يواجه شبح الموت، يسرد خالد يومًا آخر لم يكن كسابقه، لكنه كاد أن يكون الأخير: "انتهى يومي بعد تغطية سلسلة من الغارات المروعة، وكان عليّ أن أعود للبيت. حملت بعض الطعام لوالدي، وارتديت سترة الصحافة التي نعتقد أحيانًا أنها قد تحمينا، لكنها في الواقع تُحدّدنا كأهداف. وبينما أسير في أحد شوارع المخيّم، أطلقت طائرة مسيّرة النار بجانبي. لم يكن لديّ وقت للتفكير، فقط ركضت، اختبأت بين الأزقّة، وكل ما أفكّر فيه هو: كيف أصل إلى المنزل دون أن يكون هذا اليوم هو الأخير؟ وبعد دقائق بدت كالساعات، وصلت إلى البيت. فتح لي والدي الباب بابتسامة مشوبة بالقلق، رأى في وجهي ما حدث دون أن أتكلم. جلسنا نتناول الطعام بصمت، لكن الصمت كان مشبعًا بالأفكار، بالمخاوف، وبالأسئلة التي لا تُقال”.
ويختم خالد برسالة موجّهة لكل صحفي شاب، لكل من يفكّر في أن يحمل الكاميرا ويدخل هذا العالم الذي لا يُشبه الصحافة في أي مكان آخر: "لا تيأس، لا تخف. الصحافة هنا ليست وظيفة، هي نوع من المقاومة، هي سلاح، وأنت تحمله باسم من لا صوت لهم. كن مؤمنًا أن الصورة يمكن أن تغيّر مصير أمّة، وأنك حتى في أقسى اللحظات، لا توثّق الموت، بل تمنح الحياة معنى”.