من الردع النووي إلى الردع الذكي

نبض البلد -


منصور البواريد

في صمت ما قبل العاصفة، تحركت أوكرانيا في عمق الزمن والخريطة، خارج حدود التفكير التقليدي للحرب، لتنفيذ ما قد يُعد أكثر العمليات تعقيدًا ودهاءً منذ اندلاع الصراع مع روسيا. فالضربة الدرونية المنسقة استهدفت العمود الفقري للطيران الاستراتيجي الروسي، وقاذفات نووية بعيدة المدى وطائرات الإنذار المبكر، عبر هجوم طال قواعد عسكرية تبعد آلاف الكيلومترات عن أي جبهة اشتباك.
عملية استغرق تنظيمها عامًا ونصفا، نُفذت بهدوء القناص وجرأة لاعب الشطرنج الذي يرى ثماني خطوات إلى الأمام.
لم يكن الهجوم مجرد طلعة جوية عابرة، بل إعلان بداية مرحلة جديدة من الحرب، حيث تلعب الطائرات بدون طيار، المهربة والموجهة بالذكاء الاصطناعي، دورًا يتجاوز السلاح التكتيكي إلى أداة استراتيجية قادرة على قلب موازين القوى.
117 طائرة درون، بعضها مزود بتقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة تشمل التوجيه التكيفي، والتحكم عن بعد بمعالجة بيانات في الزمن الحقيقي، وحتى تفادي الرصد الراداري تلقائيا، وجهت ضربة دقيقة إلى قاعدة بيلايا وأولينيا، حيث تتمركز قاذفات تو-95 وتو-22M3، بل وحتى طائرات A-50 المحورية في نظام الإنذار الروسي.
هذهِ ليست مجرد خسائر مادية، بل شلل مؤقت لقدرة الردع النووي الجوي، في زمن يتحدث فيه الجميع عن "نهاية الردع التقليدي" وولادة شكل جديد، وهو: الردع بالتكنولوجيا.
ما جرى هو اختراق استخباراتي بامتياز قبل أن يكون هجومًا عسكريا. فالمعلومات الأولية تشير إلى أنَّ أوكرانيا نجحت في التمويه على أجهزة الرصد الروسية باستخدام شاحنات روسية الهوية لنقل الدرونات داخل العمق الروسي، حيث تمركزت هناك في وضعية استعداد قبل أن تُطلق أسرابًا انتحارية باتجاه أهدافها داخل الأراضي الروسية، التي يُفترض أنها في مأمن، بل وفي أعلى درجات الحماية، هذا وحده يعد فضيحة استخباراتية كبرى على المستوى الاستراتيجي، ويكشف عن فجوة تقنية وعسكرية بين الجيشين، دفعت روسيا إلى تحويل ردعها من الهجوم الجوي المباشر إلى تعزيز الدفاعات الجوية التي أثبتت محدوديتها أمام هذا النوع من الهجمات.
أما البعد الأخطر، فهو التنسيق المسبق مع الولايات المتحدة. تقارير متعددة تشير إلى أنَّ أوكرانيا أبلغت البيت الأبيض عن العملية قبيل تنفيذها، مما يعزز فكرة أنَّ هذا الهجوم لم يكن مجرد رد عسكري، بل خطوة محسوبة ضمن حسابات الغرب الكبرى لاختبار مدى صلابة روسيا في عمقها الداخلي، وفحص تماسك قيادتها الأمنية في زمن التشققات السياسية والاستراتيجية.
وهو ما يعيد إلى الأذهان معادلة الردع الإقليمية التي تشمل إيران والصين، حيث تلعب الضربات غير المباشرة دورًا في إعادة رسم خريطة التوازنات الكبرى.
لكن السؤال الذي يلوح على بوابة كل تحليل هو: هل سيجنّ بوتين؟
حتى الآن، كان الرد الروسي يتمثل في هجمات بالدرونات الإيرانية الصنع (Geran-2) على ميناء أوديسا، لكن الحادث الأخير يتجاوز في رمزيته وتأثيره حدود المناوشات السابقة.
فمتى تضرب القاذفات النووية في عقر دارها، يصبح التفكير في ردٍّ غير تقليدي احتمالًا لا يمكن تجاهله.
فالرد الروسي قد لا يكون فوريا، لكنه قادم بثقل تاريخي واستراتيجي، والعقيدة العسكرية الروسية لا تسمح ببقاء هذا النوع من التحديات دون رد قوي، يهدف إلى ردع المستقبل قبل أن ينتقم من الحاضر. ومع كل هجوم دروني يكشف محدودية الدفاعات الجوية الروسية، تتسع دائرة القلق في الكرملين من أن يتحول الهجوم التالي إلى اختبار أكثر جرأة، ربما يستهدف مراكز القيادة، أو أنابيب الطاقة، أو حتى ما هو أخطر من ذلك.
الرسائل الضمنية في هذا الهجوم عديدة وواضحة، ومنها: 

أوكرانيا تجاوزت منطق الدفاع إلى مبدأ الهجوم الاستراتيجي الوقائي.

الحرب لم تعد تدور حول السيطرة على الأراضي فقط، بل حول الرمزية العسكرية والهيبة النووية.

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي غيّرا قواعد اللعبة: لم يعد الانتصار مرهونًا بحجم الجيوش، بل بعمق الابتكار والتفوق التقني.

الغرب يراقب مدى "اتزان بوتين" تحت الضغط، في لحظة اختبار لقدرة روسيا على امتصاص الضربات دون الانزلاق إلى سيناريوهات أكثر جنونًا.


في هذا الهجوم، يمكننا قراءة الملامح الأولى لحرب عالمية غير معلنة، تُدار أدواتها بصمت السيليكون، لا بصوت المدافع.
لقد أُدخل العالم، دون إعلان رسمي، في مرحلة "الردع بالتكنولوجيا"، حيث الطائرات المُسيرة تفوق فاعليتها بعض أنظمة الصواريخ التقليدية، وحيث الدول لم تعد تحتاج إلى قواعد عسكرية ضخمة بقدر حاجتها إلى برمجيات فائقة الذكاء ومسارات تهريب متقنة.
لكن المثير في هذا المشهد ليسَ مجرد النجاح التكتيكي، بل ما كشفه من ضعف بنيوي في العمق الروسي، ومن تسارع في توظيف الذكاء الاصطناعي داخل أنظمة السلاح، حتى أصبح بالإمكان توجيه الدرونات وفق تحليلات فورية للحركة الجوية وتقدير نقاط الضعف في نظام الدفاع.
ولعل ما غاب عن المشهد العام هو قراءة داخلية للتحول الذي طرأ في العقيدة الأوكرانية نفسها. أوكرانيا لم تعد فقط جبهة دفاع غربية، بل فاعل مستقل يمارس شكلًا جديدًا من الردع، يصنع به ميزان قوى مؤقت يضع روسيا أمام اختبار مزدوج: تقني واستراتيجي.
ويبقى السؤال الذي يجول في الأذهان:
هل سترد روسيا بحرب سيبرانية موسعة؟
وهل ستعيد تموضع قاذفاتها النووية؟
وهل ستُحمّل الغرب المسؤولية المباشرة وتوسع نطاق الصراع إلى أبعاد إقليمية أوسع؟
في هذا الزمن المتقلب، لا شيء مستبعد ..
لكن أخطر ما قد يحدث، هو أن يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة قتال إلى لاعب مستقل في ساحة حرب لم تعد البشرية تملك مفاتيحها بالكامل.