شرعية القوة أم قوة الشرعية؟

نبض البلد -

منصور البواريد

إذا أردنا تفكيك المشهد الآسيوي الراهن بعيون سياسية حادة ودبلوماسية عميقة، فعلينا أولًا أن نُقر بحقيقة مركزيةبأنَّ آسيا لم تعد حلبة صراع بين قوى إقليمية تبحث عن توازن، بل تحولت إلى مختبرٍ فعلي لإعادة تعريف من يملك شرعية القيادة في النظام الدولي.. فلا نتحدث عن خلاف حدودي أو تنافس اقتصادي بسيط، بل عن تصادم مشروعين متكاملين، ألا وهما: مشروع الهيمنة الأمريكية المستمرة، ومشروع الصين الطامح إلى إعادة تشكيل النظام العالمي من بوابة آسيا.
عندما تصف الخارجية الصينية الولايات المتحدة بأنَّها "دولة هيمنة" ومصدر اضطراب للسلام والاستقرار، فهي لا تستخدم لغة شعاراتية أو خطابًا موجهًا للاستهلاك الإعلامي، بل تُرسل إشارة واضحة ومركزة إلى واشنطن وحلفائها، مضمونها أنَّ بكين لم تعد ترى في الحضور الأمريكي ضمانًا للاستقرار، بل عبئًا استراتيجيًّا على المنطقة، وهذا التحول في الخطاب ليس عاطفيًّا ولا أيديولوجيا، بل قائم على قراءات دقيقة للواقع المتغير في موازين القوى، وخاصة بعد تصاعد السياسات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي، وصفقات الأسلحة إلى تايوان، والتوسع المتسارع لشبكة تحالفات مثل AUKUS وQUAD.
فالولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة، تعاملت مع آسيا كمنطقة نفوذ استراتيجي غير قابل للمساس. حلفاؤها التقليديون، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، كانوا ركيزة مشروع الاحتواء، بينما كانت تحركاتها في المحيطين الهندي والهادئ تعبيرًا عن ما تسميه "حرية الملاحة"، لكنه في العمق ترجمة عسكرية لسياسة ردع الصين من الاقتراب من صفة "القوة القائدة". واللافت أنَّ هذهِ الاستراتيجية لم تعد كافية لإقناع حتى بعض الحلفاء؛ ففي قمة شانغري-لا الأمنية، ظهرت أصوات آسيوية تدعو إلى استقلالية استراتيجية، بعيدًا عن الاصطفاف الصريح مع واشنطن.
لكن الصين، بتراكمها السياسي والاقتصادي والعسكري، لم تعد في موقع الدفاع، بل باتت تمارس نوعًا من "الهجوم الدبلوماسي الهادئ"، هي لا تُطلق الرصاص، بل تُطلق مشاريع الربط، وشبكات الطاقة، والتكنولوجيا، وتعيد بناء شراكات قائمة على الربح المتبادل، لا على الحماية العسكرية. وهنا بالضبط يكمن جوهر التحول، من خلال: واشنطن ما زالت تقدم القوة العسكرية كضمان للاستقرار، في حين أنَّ بكين تُقدم التنمية المشتركة كبديل لذلك.
الصراع لم يعد فقط على من يردع، بل على من يُقنع، وخاصة في الملفات الحساسة مثل الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وسلاسل التوريد، والطاقة الخضراء، حيث باتت الصين تُنافس أمريكا في العمق لا في الأطراف فقط.
ما تقوله الصين ليس فقط موجهًا لأمريكا، بل لحلفاء واشنطن في آسيا أيضًا، فبكين تقول ضمنًا: إنَّ الاستقرار الذي تتوهمونه تحت المظلة الأمريكية هو استقرار هش، لأنَّه قائم على تناقض بنيوي بحيث لا يمكن لقوة خارجية أن تضمن التوازن في منطقة لم تعد تقبل الوصاية، فهذه الرسالة، وإن لم تُقال صراحة، وصلت إلى عواصم كمانيلا ونيودلهي وكوالالمبور، وهي اليوم تعيد تقييم خياراتها في ضوء التحولات الدولية الجارية، بل إنَّ بعضها بدأ يعيد التموضع بحذر، كما نرى في انفتاح الهند على الصين في ملفات BRICS، أو تردد الفلبين بين الصين والولايات المتحدة في النزاعات البحرية.
الولايات المتحدة تدرك هذا التحول، لكنها حتى الآن تُصر على استخدام أدوات القرن العشرين لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين من خلال عقيدتها العسكرية، وخطابها السياسي، وطريقة إدارتها لتحالفاتها، كلها تشير إلى تمسكها بمفهوم "القيادة التي لا تُناقش"، بدل الانفتاح على نظام تعددي جديد. بكين، على النقيض، تبني خطابها على قاعدة الاحترام المتبادل للسيادة، لكنها تُدرك أنَّ الشرعية الدولية لا تُمنح، بل تُنتزع من خلال الفعل الواقعي، ولهذا لا تعتمد على الخطاب وحده، بل تُرفقه بتحركات دقيقة في مجالات التكنولوجيا، والتجارة، الطاقة، والتكامل الإقليمي، ومن خلال أدوات صلبة مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومبادرة الحزام والطريق، واتفاقيات التجارة الحرة التي باتت تتجاوز نفوذ الدولار الأمريكي.
فإنَّ القلق الأمريكي ليس من "نية" الصين، بل من "قدرتها"، فبكين لم تعد قوة صاعدة فقط، بل قوة متماسكة تمتلك رؤية، أدوات، وصبر استراتيجي، وحلفاء جدد ليسوا خاضعين، بل مقتنعين، وما يُقلق واشنطن أكثر هو أنَّ نموذج الصين في إدارة الشأن الدولي يُغري بعض النخب الإقليمية التي سئمت من الوصاية الغربية المقنَّعة، والأهم أنَّ الصين لا تطلب من الشركاء أن يختاروا بينها وبين واشنطن، بل تمنحهم فسحة مرنة للتموضع الذكي، وهو ما يفسر نجاحها النسبي في جذب بعض دول الخليج، وآسيا الوسطى، وشرق أفريقيا، إلى مظلتها الاستثمارية دون ضجيج سياسي.
لكن دعنا لا نقع في فخ القراءة الرغبوية فلا الصين قادرة حاليًّا على إزاحة أمريكا تمامًا، ولا أمريكا قادرة على احتواء الصين كما احتوت خصومها السابقين. المشهد الآن معقد، فنحن أمام لحظة ازدحام استراتيجي لا نصر حاسم. الازدحام هنا ليس فقط في عدد اللاعبين، بل في تضارب قواعد اللعب، وتباين الرؤى الأمنية، وتعارض تعريفات "السلام" و"الاستقرار" بين شرق وغرب، فبينما ترى الصين أنَّ الاستقرار يعني تقليص النفوذ الأمريكي وفتح فضاءات إقليمية حرة، ترى الولايات المتحدة أنَّ أي توسع صيني هو تهديد للنظام الليبرالي الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية.
القوة الأمريكية ما زالت طاغية، لكنها تواجه لأول مرة خصمًا لا يشبه السوفييت، فهو خصم لا يُعلن الحرب، بل يُغير قواعد اللعبة بهدوء. وإذا استمر هذا المسار، فإنَّ السنوات القادمة ستشهد انتقالًا تدريجيًّا من "الردع الأمريكي للصين" إلى "إعادة ضبط الصين للبيئة الإقليمية من الداخل"، خاصة إذا دعمت ذلك نتائج انتخابية أمريكية غير مستقرة، أو مزيد من التراجع في جاذبية النموذج الغربي الليبرالي.
وهنا، تلعب الدول الوسطى من تركيا إلى إندونيسيا، ومن السعودية إلى الأردن، دورًا تاريخيًّا في صياغة هذا التوازن الجديد. من سيقف على الحياد البنَّاء ويفاوض الجميع دون الارتهان لأحد، سيكون هو من يمتلك زمام المبادرة في النظام العالمي القادم.

أما الأردن، فله خصوصيته التي لا تُشبه أحدًا، ففي قلب هذا التحول الآسيوي الدولي، لا يُنتظر من الأردن أن يدخل في سباق القوى العظمى، بل أن يُحسن استخدام ما يملكه من وزن نوعي يتمثل في موقعه الجغرافي المُشرف على مفاصل الإقليم، وعلاقاته الدولية المتوازنة، وخطابه السياسي العقلاني الذي لطالما جنّبه الوقوع في فخ المحاور الصلبة. فالذي يحتاجه الأردن اليوم هو تحويل هذا الرصيد إلى أدوات فاعلة، وذلك عبر تعميق دوره كحلقة وصل بين آسيا والغرب، من خلال مبادرات استثمارية ومشاريع تنموية تشجع على الربط اللوجستي والتكنولوجي بين الخليج وشرق المتوسط وآسيا، بالتوازي مع بناء شراكات استراتيجية ذكية مع قوى آسيوية كالصين والهند وكوريا الجنوبية، لا على حساب علاقاته التاريخية بالغرب، بل في تناغم يعكس توازنًا واعيا. ولأن الاقتصاد بات لغة السياسة الأولى، فإنَّ تطوير الدبلوماسية الاقتصادية الأردنية سيمنحه قدرة أكبر على جلب الفرص بدل الاكتفاء بإدارة الأزمات، وخاصة إذا استثمر موقعه كبوابة مستقرة للأسواق المحيطة، في ظل التراجع الأمني والسياسي في بعض دول الجوار، مما يجعله خيارًا موثوقًا لدى الشركات الآسيوية الباحثة عن الاستقرار والتنوع، غير أنَّ الأهم من كل ذلك هو أن يثق الأردن بذاته؛ فالقوة الحقيقية لا تأتي من كثرة الموارد فقط، بل من وضوح الرؤية، وهدوء الأعصاب، وصدق الخطاب، وهي سمات تجذرت في السياسة الأردنية لعقود، وإذا أحسن الأردن استثمار هذه اللحظة التاريخية، فإنَّه لا يكتفي بتفادي العواصف، بل يُبحر نحو مستقبل أكثر حضورًا وتأثيرًا في معادلات الإقليم والعالم.
اللحظة ليست لحظة شعارات، بل لحظة تموقع استراتيجي دقيق، والصراع الحقيقي ليس فقط بين الصين وأمريكا، بل بين من يفهم التحولات ويمتطيها، ومن ينكرها ويغرق فيها.