نبض البلد - حسام الحوراني
لطالما كان علم الاجتماع مرآة للمجتمع، يسبر أغواره، ويحلل أنماطه، ويحاول فهم أعمق التفاعلات التي تُشكّل النسيج الإنساني. ومع دخول العالم في عصر الذكاء الاصطناعي، بدأ هذا العلم يتغيّر جذريًا، ليس فقط من حيث أدوات التحليل، بل من حيث طبيعة الأسئلة المطروحة، والطرق التي نفهم بها المجتمعات والسلوك البشري. الذكاء الاصطناعي لم يصبح مجرد أداة لعلم الاجتماع، بل بات لاعبًا نشطًا يعيد تشكيل الواقع الاجتماعي ذاته.
في السابق، اعتمد علماء الاجتماع على استطلاعات الرأي، والمقابلات، والملاحظات الميدانية لفهم المجتمعات. هذه الطرق، رغم دقتها، كانت تستغرق وقتًا طويلًا وتُنتج بيانات محدودة. أما اليوم، فقد أصبح بالإمكان تحليل ملايين البيانات الاجتماعية في لحظات، بفضل الخوارزميات المتقدمة. من التغريدات والتفاعلات على فيسبوك، إلى أنماط البحث، وتحليل الصور، أصبح كل سلوك رقمي بمثابة مادة خام لفهم المجتمعات بصورة أدق وأكثر تعقيدًا.
الذكاء الاصطناعي يمكنه اليوم أن يتنبأ باتجاهات الرأي العام، وأن يرصد مشاعر المجتمعات، ويحلل تغير المزاج الاجتماعي لحظة بلحظة. خوارزميات تحليل المشاعر (Sentiment Analysis) قادرة على تتبع نبرة الخطاب العام، وتحديد حالات الغضب الجماعي، أو تصاعد القلق، أو انتشار مشاعر الأمل أو اليأس. هذه القدرة لم تكن متاحة سابقًا، وهي تُحدث ثورة في فهم التفاعلات الاجتماعية على مستوى غير مسبوق.
بل وأكثر من ذلك، أصبح بالإمكان استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد الديناميكيات الخفية داخل المجتمعات. على سبيل المثال، تحليل أنماط الهجرة الداخلية، أو تغير الاهتمامات الثقافية لدى جيل معين، أو حتى الكشف المبكر عن مؤشرات التطرف أو العنف قبل أن تتفجر إلى أزمات. الذكاء الاصطناعي يُشبه "مجهرًا اجتماعيًا" يكشف التفاصيل الدقيقة في نسيج الحياة اليومية.
لكن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وعلم الاجتماع لا تقف عند التحليل فقط، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي نفسه. فعندما تُستخدم الخوارزميات لتحديد ما نقرأه، ومن نتفاعل معه، وما نراه على الإنترنت، فإنها تُؤثر في وعي الناس، وتُعيد تشكيل توجهاتهم الفكرية والثقافية. بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بدراسة المجتمع، بل يُشارك في صناعته.
وهذا يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول السلطة الخفية للخوارزميات. من الذي يكتب هذه الخوارزميات؟ ومن يحدد القيم والمعايير التي تعمل على أساسها؟ إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي تُدرب على بيانات منحازة، فإنها قد تُعيد إنتاج هذا الانحياز، وتُكرس صورًا نمطية، أو تُقصي فئات اجتماعية دون قصد. وهنا تأتي أهمية الدور الأخلاقي لعلماء الاجتماع في الرقابة والتقويم.
من التحديات الكبرى أيضًا أن الذكاء الاصطناعي قد يُقلل من القيمة الإنسانية للظواهر الاجتماعية، إذا ما تم التعامل مع الإنسان ككائن رقمي يمكن اختزاله في بيانات فقط. فالمجتمع ليس فقط أرقامًا وأنماطًا، بل هو مشاعر، وتاريخ، وثقافة، ومعانٍ عميقة لا يمكن دائمًا تحويلها إلى معادلات رياضية. وهذا ما يُحتّم ضرورة التكامل بين الفهم الكيفي العميق لعلم الاجتماع، والقدرات الكمية الهائلة للذكاء الاصطناعي.
في السياق العربي، يُمثّل الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لتحديث أدوات علم الاجتماع، وفهم التحولات السريعة التي تشهدها المجتمعات العربية، خاصة في ظل التحول الرقمي، والهجرة، وتغير القيم الأسرية، وتنامي دور الشباب. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لفهم اتجاهات الرأي العام العربي، وتحليل الخطاب الإعلامي، ورصد ظواهر اجتماعية معقدة مثل البطالة، أو التغيرات في القيم الدينية والثقافية.
ومع ذلك، يجب أن يتم هذا التوظيف بحذر شديد، ووفق ضوابط قانونية وأخلاقية تحمي الخصوصية، وتحترم التنوع، وتُعزز من العدالة المعرفية. يجب ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة للرقابة الصامتة أو التوجيه القسري، بل إلى وسيلة لفهم الإنسان واحترامه.
اود القول بالمختصر : ان الذكاء الاصطناعي يفتح لعلم الاجتماع أبوابًا جديدة من الفهم والتأثير، لكنه يطرح أيضًا تحديات فلسفية وأخلاقية عميقة. هل سنستخدم هذه الخوارزميات لفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ أم سنسمح لها أن تُعيد تشكيل وعينا دون وعي منا؟
إن الجمع بين علم الاجتماع والذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون مجرد تكامل تقني، بل تحالفًا إنسانيًا رقميًا يهدف إلى بناء مجتمعات أكثر وعيًا، وعدالة، وتماسكًا. فكما أن الإنسان هو من علّم الآلة التفكير، يجب أن يكون أيضًا من يُعلّمها كيف تفهم المجتمع... وتخدمه.