في ذكرى والدي الشيخ سميح أحمد البيايضة... الرجلٌ الذي ترك بصمته في القلوب

نبض البلد -

فقدان الأب هو جرحٌ لا يندمل، ولكن الذكرى الطيبة تبقى بلسمًا يُخفف الألم. لقد كان أبي رحمه الله من أولئك الرجال الذين صنعوا الحياة بأخلاقهم، فكان كالشمعة التي تُنير الدرب للآخرين بينما تذوب هي لتعطي. اليوم، أتذكّره ليس بالحزن وحده، بل بالامتنان لكل ما غرسه فينا من قيمٍ ومبادئ جعلتنا من نحن عليه اليوم.

الإيمان.. القوة التي لا تنضب

كان إيمان والدي عميقًا كالجذور في الأرض، يثبته حتى في العواصف. في كل صباح، كان نداء "الله أكبر" يُسمع من غرفته، وكأنه يُذكّرنا بأن الحياة لا تستقيم إلا بذكر الله.كان دائما يجيب عندما يسأله أي شخص ماذا تفعل, بقوله "قاعد مع الرحمن". لقد علّمنا أن الأمل لا يموت ما دام القلب متعلقًا بالخالق، مستشهدًا بقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.

العمل الجاد والإخلاص.. إرثٌ من التعب الذي أصبح نورًا

لم يكن والدي رحمه الله يعرف الكسل. كان يومه يبدأ قبل الفجر وينتهي بعد أن يضمن أن كل واجبه قد أُدي على أكمل وجه. لقد علمنا أن "اليد العليا خير من اليد السفلى"، فكان يعمل بجدٍ صامت، لا ينتظر الشكر من أحد، بل يكفيه رضا الله ثم رضى ضميره. كم من الليالي رأيناه يسهر ليكمل عمله، وكم من التضحيات قدّمها في صمت، لأنّه آمن أن العمل الصالح هو أفضل إرث.

حب الوطن والناس.. دمٌ يسري في القلب

كانت محبة والدي لوطنه وأهله لا تُقاس، فلم يكن حبه مجرد كلمات، بل أفعالًا تشهد له. كان دائمًا يشارك في أعمال الخير، ويُعلّم أبناءه أن النجاح الحقيقي هو أن ترفع اسم بلدك عاليًا. يتذكر الجميع مواقفه النبيلة في مساعدة المحتاجين، ودعمه لكل من يطلب العون، وكأنه يترجم قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. كان يؤمن بأن الأوطان تُبنى بأيدي أبنائها، فكان يغرس فينا حب العطاء والوفاء لهذا التراب الطاهر.

الكرم الذي لا يعرف الحدود

كان والدي رحمه الله مثالًا حيًا للكرم، لا يرد سائلًا، ولا يبخل بوقته أو ماله على من يحتاج. كم من المرات رأيته يُخفى مساعدته كي لا يجرح كرامة أحد، متذكرًا قول الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. كان يؤمن بأن العطاء سرٌّ من أسرار السعادة، فكانت يده العليا هي دستوره.

الحكمة.. نورٌ في ظلمات الحياة

لم يكن والدي مجرد أب، بل كان مرشدًا حكيمًا. كان يستمع أكثر مما يتكلم، وإذا نطق كانت كلماته كالدُّرر، تهدي إلى الحق. في أصعب المواقف، كان يقول: "اصبر، فبالصبر تُفتح الأبواب." وكأنه يستحضر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. لقد علمنا أن الحكمة ليست في كثرة الكلام، بل في قوّة التأثير.

التواضع.. إكليل العظماء الحقيقيين

على الرغم من مكانته بين الناس، كان أبي متواضعًا كالزرع المثمر، ينحني تواضعًا لا ضعفًا. كان يعامل الجميع باحترام، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم. لقد فهم معنى العظمة الحقيقية، تلك التي تُبنى على التواضع لا على التكبر، مصداقًا لقول النبي ﷺ: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم).

الحنان.. لغته التي لا تحتاج إلى كلمات

كان حنونه لا يحتاج إلى عبارات، فعيناه تفيضان بالدفء، وحركاته تُترجم محبته. حتى في لحظات صمته، كنّا نشعر بأنه يحملنا في قلبه قبل يديه. لقد جعل من البيت مأوىً للأمان، ومن العائلة ملاذًا لا يُهزم. كم كنت أتمنى أن أقول له اليوم: "شكرًا لأنك جعلتنا نشعر بأننا الأغنى في الدنيا، حتى وإن لم نملك إلا وجودك بجانبنا."

الفراق.. لقاءٌ مؤجل في جنات النعيم

اليوم، حين أفقدك بيننا جسدًا، أعلم أن روحك باقية في كل خير نفعله، وفي كل كلمة حق ننطق بها. لقد غادرتنا إلى رحمة الله، لكنك تركت فينا إرثًا من القيم يجعلنا نرفع رؤوسنا دائمًا. أسأل الله أن يجعلك من أهل الفردوس، وأن يجمعنا بك تحت ظل عرشه، كما جمعتنا في الدنيا بحبك وحكمتك. {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

هذه ليست مجرد كلمات، بل هو جزء من القلب المكلوم بالدموع الذي يعلم أن الله مدبر كل شي وأن الله سيكون أرحم بك يا والدي من الدنيا و ما فيها. اللهم اجعل قبرأبي روضةً من رياض الجنة وأجعله من أهل جنة النعيم .

انا لله وانا اليه راجعون.

المشتاق الحزين و المحب الوفي

أبنك وائل