الوطن حكاية تُحكى بين سند وجده، حين ينطق الطفل بالسؤال ويُجيب التاريخ

نبض البلد -

ولاء فخري العطابي 


في أمسية من أمسيات الوطن وبين جدران قصر الحسينية، تجمّعت العائلة الأردنية الكبيرة للاحتفال بالعيد التاسع والسبعين لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية، هنالك وعلى منصة بسيطة ولكنها غنية بالمعنى خرجت حكاية تُمثل كل بيت أردني وكل جدّ يحمل على كتفيه تاريخ وطن، وكل طفل يحمل في عينيه حلم الغد، فكانت تلك الحكاية بين "سند” وجده حيث بدأت بسؤال بسيط عميق: "شو الأردن بالنسبة إلك؟!.

سند، هذا الطفل الفضولي الذي لا يملك من الماضي إلا ما يُروى له نظر إلى جده وهو يعلم أن الإجابة لن تكون عادية، 
فجده الذي عاش الاستقلال وتربّى في كنف الوطن منذ بداياته، نظر إليه بحنين وقال:
"الأردن يا سند، هو الكرامة، هو العزة، هو الفخر هو قصة عمر عشتها يوم بيوم، من طين الحارات القديمة، لصفوف المدارس، لصوت النشيد، لصورة الحسين التي لا تزال رمزًا وطنيًا حاضرًا في كل بيت ومدرسة ومؤسسة أردنية، ولعبارات الملك عبدالله الثاني اللي كبرت معانا، وهذه العبارات ليست مجرد جمل رسمية، بل أصبحت محفورة في وجدان جميع الشعب صغاره وكباره، لأنها تُقال بلحظة صدق، وبتلمس هموم المواطن، وبتعبر عن حب الملك لشعبه". 

استرسل الجد في حديثه، وكأنه يفتح صندوقًا قديمًا من الذكريات يعود به إلى عام 1949، حين كان الوطن ما يزال في بداياته، لكنه كبيرٌ في معانيه، وبعدها قال الجد وهو يبتسم بعين يملؤها الحنين "كنا فقراء في الأشياء، أغنياء في الشعور بالوطن”، نعم فقد استعاد أمام حفيده تفاصيل الحياة البسيطة آنذاك: من الحارات الطينية، إلى المدارس التي لم تكن تملك الكثير من الوسائل، لكنها امتلكت أهم ما يمكن أن يُمنح المعلّم الذي كان يربّي قبل أن يعلّم، ويغرس القيم كما يغرس الحروف، صفوف صغيرة، دفايات تعمل بالكاز في منتصف الشتاء، ودفاتر تُشترى من بسطات بسيطة تصطف قرب المدارس، حيث كانت الأدوات المدرسية تُعامل كما تُعامل الكنوز، الدفتر المغلف بورق بني الحقيبة القماش والكتاب الذي يُعاد استخدامه عامًا بعد عام فالحياة لم تكن سهلة، ولكن المشهد كان مفعمًا بالكرامة، فكل ذلك كان يرمز لمرحلة عاشها الأردنيون بفخر، لا بحسرة، والتعليم كان بداية كل حلم.


ومع مرور السنوات، بدأت ملامح التحوّل تظهر على وجه الوطن، فقد دخل الأردن مرحلة جديدة من البناء والتقدم، وبدأت الجامعات تُفتح، والطرق تُعبد، والمؤسسات تتسع، وبدأ الأردني يرى ثمرة الكفاح تُزهر أمام عينيه لم يكن التطور مجرد مبانٍ أو شوارع بل كان نهضة في الوعي وتقدمًا في الفكر، وانفتاحًا على العالم دون أن نغادر جذورنا.

بدأ الناس يتعلمون، ويخططون، ويبنون، ويبدعون، واتسعت آفاق الحلم وازداد الإيمان بأن الأردن قادر على أن يكون نموذجًا في المنطقة، رغم كل التحديات. نعم لم تكن الاستقلالية مجرد وثيقة نحتفل بها كل عام، بل واقعًا يُعاش في كل تفصيل من تفاصيل الحياة.

نظر بعدها الجد إلى حفيده وقال بثقة وإحساس عميق: "يا سند، الاستقلال مش بس يوم الاستقلال هو كل لحظة بتحس فيها بالأمان، كل نهار بتروح فيه عالمدرسة، كل شارع نظيف، كل علم مرفوع، كل طبيب، كل جندي، كل معلمة، كل حبة تراب زرعناها بحُب، هذا هو استقلالنا".

كانت كلماته أكثر من مجرد سرد، كانت شهادة من رجل عاش الانتقال من البساطة إلى البناء، من الحلم إلى الحقيقة، وأراد أن يزرع في قلب حفيده إدراكًا عميقًا بأن الوطن لا يُورَّث فقط أرضًا، بل يُورَّث كرامة وانتماء وأبناء الغد الواعد. 

السؤال الذي طرحه سند، وإن بدا بسيطًا، هو سؤال عميق يُطرح منذ أجيال: ما معنى الوطن؟ لكن الأجمل، أن الإجابة هذه المرة لم تأتِ من وزير أو خطيب أو كاتب أو صحفي أو صاحب منصب، بل من جدّ عادي يشبه جدودنا كلنا، ومن طفل يشبه أبناءنا، هذا ما يجعل الحكاية مؤثرة: لأنها حقيقية، نابعة من الوجدان، تمثّل الناس لا السلطة، الشعور لا الشعارات.

فقد تجاوزت هذه الحكاية مجرد كونها مشهدًا مسرحيًا في احتفال وطني لتتحوّل إلى مرآة صادقة تعكس مشاعر الأطفال وتساؤلاتهم، فقد شاهد كثير من الصغار "سند” وهو يطرح سؤاله البسيط والعميق على جده، وربما تمنّى كل واحد منهم أن يطرح السؤال ذاته على من سبقه في العمر.

فالطفل يا سادة لا يرتبط بوطنه من خلال الشعارات الجاهزة أو الكلمات الرسمية، بل من خلال الحكايات التي تُروى له على مهل، على سجادة في بيت الجد، أو على درج المدرسة، أو في لحظة صدق بينه وبين معلّمه، وهنا تكمن قيمة هذه الحكاية: في قدرتها على نقل حب الوطن من جيل إلى جيل، كما نُورّث أسماء الجدود، وعادات العيد، وتفاصيل الطفولة الأولى. فالوطن لا يُحفظ في الذاكرة فقط، بل في المشاعر التي تُزرع بالكلمة الصادقة، والموقف الذي يُروى لا يُملى. 


حين سأل سند جده عن "ما هو الأردن؟”، لم يكن ينتظر إجابة تقليدية تُشبه دروس الجغرافيا أو مقاطع التاريخ، كان يبحث عن شعو عن معنى داخلي لا يُكتب في الكتب، بل يُختزن في القلوب، في تلك اللحظة، لم تكن كلمات الجد مجرد جمل مرتبة بل شهادة صادقة خرجت من قلبٍ ارتجف، ومن عينٍ لمعت بدمعة فخر، تحدث وهو يحمل في صوته تاريخًا، وفي نبرته محبة لا توصف، فقال:
"الوطن يا سند، مش بس خريطة، هو اللحظة اللي بتوقف فيها على باب بيتك وبتحس إنك بأمان، هو صوت الأذان بصوت مرتل قديم، هو زوامير الفرح بالنجاح، هو علم مرفوع بأيدينا مش لأننا مجبورين بل لأننا فخورين.”

وفي المشهد الأعمق، لم يكن سند – ولا أي طفل أردني شاهده – مجرد مستمع لحكاية بل كان جزءًا منها، هذه الحكاية ليست رواية من الماضي، بل امتدادٌ نحو المستقبل، جيلٌ يسمع الآن ليكمل لاحقًا يبني ويصون ويؤمن أن الخير ما دام في قلوب الأردنيين، فالوطن سيبقى بخير.

وهكذا، لم تكن "حكاية سند” مجرد فقرة في احتفال، بل كانت رسالة وطنية نابضة، تُعلّمنا أن الانتماء لا يُلقَّن، بل يُروى تمامًا كما نروي لأطفالنا أسماء من سبقونا، نروي لهم اسم هذا الوطن، وتاريخه، وكرامته.