الشرق يستيقظ: الصين تحيك خيوط النظام العالمي الجديد

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، بات من الواضح أن مشهد القيادة العالمية آخذ في التغير. لعقود طويلة، احتكرت الولايات المتحدة الأمريكية مركز الزعامة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، لكن مع كل يوم يمر، تتصاعد قوة الصين بطريقة مدروسة ومذهلة تجعل المراقبين يجمعون على حقيقة واحدة: الصين ستقود العالم قريبًا جدًا.
الصعود الصيني ليس وليد لحظة عابرة أو طفرة اقتصادية مؤقتة، بل هو نتيجة استراتيجية طويلة الأمد، بدأت منذ عقود بالتخطيط الدقيق والتنفيذ الصارم. منذ إعلان سياسة "الإصلاح والانفتاح" في أواخر السبعينيات، وضعت الصين نصب أعينها هدفًا واضحًا: اللحاق بالغرب، ثم تجاوزه. وقد استطاعت أن تبني اقتصادًا مرنًا، وتطوّر قدراتها التكنولوجية والعسكرية، وتفرض نفسها كقوة ناعمة عالمية.
اليوم، الصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وربما تتجاوز الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي في غضون سنوات او حتى اشهر قليلة. بفضل "مبادرة الحزام والطريق"، توسعت نفوذها الاقتصادي والسياسي إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وشبكات الطاقة، والموانئ، والطرق، مما يجعلها تمسك بخيوط التجارة العالمية بطريقة ذكية وطويلة الأمد.
في مجال التكنولوجيا، تُعتبر الصين الآن رائدة عالمية في مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والجيل الخامس للاتصالات (5G)، وصناعة الرقائق الإلكترونية. شركات مثل هواوي وعلي بابا وتينسنت، التي كانت قبل سنوات مجرد نسخ محلية عن مثيلاتها الأمريكية، أصبحت اليوم تنافس وتبتكر، بل وتقود الابتكار في بعض المجالات.
ولم تتوقف الصين عند الاقتصاد والتكنولوجيا فقط، بل عززت حضورها في الفضاء، من خلال برنامج فضائي طموح جعلها تبني محطة فضاء خاصة بها، وتخطط لإرسال بعثات مأهولة إلى القمر. وعلى صعيد الابتكار العلمي، أصبحت الأبحاث الصينية تتصدر قوائم النشر العلمي العالمي، في دليل على تحوّل القوة الفكرية شرقًا.
إلا أن ما يجعل صعود الصين فريدًا هو النهج الجمعي الذي تتبناه، مقابل الفردية الغربية. الصين تتحرك كدولة-أمة موحدة، بتخطيط مركزي ورؤية طويلة الأجل، مما يمنحها قدرة على المناورة والصبر والتنفيذ لا تضاهى. في حين تنشغل الديمقراطيات الغربية بالخلافات الداخلية ودورات الانتخابات، تواصل الصين تنفيذ خططها بعقود من الاستمرارية والانضباط.
لكن السؤال الأهم: ماذا يعني هذا الصعود للعالم؟
من ناحية، قد يعني تحوّلًا نحو نظام عالمي أكثر تعددية، حيث لا تهيمن قوة واحدة، بل تتشارك عدة قوى في التأثير. هذا قد يخفف من الهيمنة الثقافية الغربية ويفتح الباب أمام نماذج تنموية مختلفة تُناسب خصوصيات الشعوب.
ومن ناحية أخرى، يُثير الصعود الصيني مخاوف تتعلق بالحقوق والحريات. فالنموذج الصيني، الذي يقدّم الدولة فوق الفرد، يطرح تحديًا للمفاهيم الليبرالية التقليدية، وقد يُعيد صياغة معايير الحكم العالمي بناءً على معايير جديدة، حيث الاستقرار والتنمية يُقدمان أحيانًا على الحرية السياسية.
كما أن المنافسة التكنولوجية، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية، قد تُسرّع سباقًا عالميًا نحو التفوق الرقمي، مما يجعل السيطرة على البيانات والمعلومات ميدان الصراع الحقيقي القادم.
وفي الشرق الأوسط، تزداد أهمية فهم هذه التحولات الكبرى. فالصين تُعتبر شريكًا اقتصاديًا رئيسيًا للعديد من دول المنطقة، عبر مشاريع البنية التحتية، والطاقة، والتكنولوجيا. ومع تراجع الالتزام الأمريكي تدريجيًا، تبرز بكين كبديل استراتيجي واعد، وإن كان يتطلب إدارة ذكية للمصالح لضمان الاستفادة القصوى من الفرص دون الوقوع في فخ التبعية.
في النهاية، الصين لا تتقدم فقط لأنها قوية، بل لأنها تفكر لعقود قادمة، بينما ينشغل الآخرون باليوم والغد. ومع أن الطريق إلى القمة ليس خاليًا من التحديات — سواء الاقتصادية أو الديموغرافية أو الجيوسياسية — فإن زخم الصعود الصيني بات من القوة بحيث يصعب تجاهله.
العالم يتغير أمام أعيننا، ومعه تتغير موازين القوى والنماذج الحضارية. نحن على أعتاب عصر جديد، قد لا يُدار من واشنطن أو بروكسل، بل من بكين. والسؤال الأهم:
هل نحن مستعدون للتعامل مع عالم تتحدث قيادته بلغة مختلفة... ورؤية مختلفة للمستقبل؟