الدكتور رجائي حرب
في كل عامٍ وفي مثل هذا اليوم تزهو خمائل المجد في شوارع مدننا وقرانا وبوادينا ومخيماتنا الاردنية بمناسبةٍ أعادت لنا كأردنيين قيادة جيشنا العربي المصطفوي، وجسدت في ثناياها، وفي تفاصيل المشهد الأردني يوماً مجيداً من أيام الوطن العابقة بالفخر والعزة والسؤدد.
وتزهو ذاكرة الوطن مع أقحوانات الربيع من بواكير آذار لترسم على امتداد حدود هذا الوطن أكاليل الزهر وعطر الورود التي تنتثر مع ذكرياتٍ خالدةٍ تحملنا إلى ستة عقود مضت، حين أعلن الحسين الباني رحمة الله عليه تعريب الجيش العربي وإنهاء خدمات قائده الانجليزي، فشكل ذلك محطةً من محطات الفخار والعزيمة الأردنية التي لا تلين.
وتتزامن ذكرى تعريب الجيش العربي في هذا العام مع مئوية ثورة العرب الكبرى التي بعثت في سبات العرب مشروعاً نهضَوياً بعدما طال تحت هيمنة الإتراك وامبراطوريتهم التي انحرفت عن مسارها الاسلامي، لتجذر التتريك في كل مرافق سيطرتهم، حيث أنطلقت نداءات المنقذ الأعظم الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه لكل الزعامات العربية لتنتفض وتخلص الأمة من الهيمنة الخارجية.
ففي الوقت الذي نفض فيه الشريف الحسين الأول غبار سياسة التتريك والطورانية عن كاهل الأمة وجسد معنى الوحدة فيها ودعا إلى تضامنها، جأء الشريف الحسين بن طلال الباني ليفكك الهيمنة البريطانية عن مفاصل جيشنا العربي ولتصبح قيادته عربية هاشمية تحقق مطالب الأمة جمعاء، ويقدم أعظم التضحيات على أسوار القدس واللطرون، وفي باب الواد، وهضبة الجولان في حرب رمضان، ويغيث المحتاجين في كل بقاع العالم وهو يشارك في حفظ السلام العالمي من خلال منظمة الأمم المتحدة.
لقد اتّخذ جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، قراره القومي والتاريخي بتعريب قيادة الجيش العربي، ليضيف لصفحات الوطن أيقونة عزٍ جديدة، وليكتب على صفحاته الناصعة ترانيم الكرامة والحرية التي ترسم غدنا الأردني الكبير.
وحين اتخذ جلالته قرار إعفاء الجنرال كلوب من منصبه، وتعيين ضابط أردني قائداً للجيش، أراد أن يبني جيشاً عربياً هاشمياً ينبع قراره من قلب قيادته الفذة الغيورة، وأن يضع نصب عينيه حاضر وطنه ومستقبل شعبه وأمته، ويستند إلى إرثٍ تاريخيٍ متجذرٍ في وجدان القائد الأعلى الذي كان يقول:
" لقد كنت مصمماً على إنشاء جيشٍ قويٍ متوازنٍ يدعمه غطاءٌ جويٌ هام، وقد كان تحقيق ذلك مستحيلاً ما دام كلوب بيننا، فكان علي إذن أن أنفصل عنه ". وأضاف جلالته:
" يجهل الرأي العام عموماً أن عزل كلوب كان قضية أردنية تماماً، لقد كان السبب الرئيسي في عزله يقوم على عدم التفاهم بيننا، وعلى خلافنا حول مسألتين جوهريتين هما: دور الضباط العرب في جيشنا، واستراتيجيتنا الدفاعية، فأحد واجباتي كملك هو تحقيق الأمن لشعبي وبلادي، ولو لم أقم باستبداله لما كنت قد مارست أعباء مسؤولياتي. وقد أبلغني الإنجليز رسمياً، بأن سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي الأردني سوف يتولى قيادته ضابط عربي في عام 1985، وتقول حكومة بريطانيا إنها سوف تتحدث عن التعريب بعد ثلاثين سنة ".
ولكن الحسين الهاشمي المغوار وسليل الدوحة المحمدية ووريث الثورة العربية من جده الشريف الحسين لم يرض بذلك واعتبره قيداً لعروبته ومبادئه فاتخذ في الأول من آذار عام 1956 قراره القومي والتاريخي بتعريب قيادة الجيش العربي، وتحريره من قيادته الأجنبية، وأيقن أنه في الوضع السياسي الجديد الذي أوجده قيام إسرائيل كان لا بد من إعطاء الجيش إحساساً بالمسؤولية والكبرياء، وقدرةً على إنجاز واجباته بحريةٍ واقتدار.
فقد طلب جلالته عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء ترأسها بنفسه، وأبلغ فيها رئيس الوزراء آنذاك سمير الرفاعي، برغبته في إنهاء خدمات الفريق كلوب وتسفيره إلى بلاده فوراً، وعند الساعة الثانية والنصف من ظهر يوم الأول من آذار عام 1956، حمل رئيس الديوان الملكي القرار الملكي السامي الذي نص على إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان الجيش العربي الأردني. وترفيع الزعيم راضي عناب إلى رتبة لواء وتعيينه رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني. وإنهاء خدمات القائم مّقام باترك كوجهل مدير الاستخبارات. وإنهاء خدمات الزعيم هاتون مدير العمليات العسكرية.
وفي الساعة السابعة والنصف نقلت الإذاعة الأردنية من مدينة القدس، القرار المصيري، وكان صوت الراحل العظيم يزف البشرى للشعب الأردني بنبراتٍ قويةٍ وواضحةٍ قائلاً: " أيها الضباط والجنود البواسل، أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم، ضباطاً وحرساً وجنوداً وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمةً لبلدنا ووطننا، أن نجري بعضاً من الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش، فنفذناها متكلين على الله العلي القدير، ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتها، وإنني آمل منكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة، وأنت أيها الشعب الوفي هنيئاً لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن، ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا، روح التضحية والفداء، مترسماً نهج الأُلى في جعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وبعد مضي ستة وستين عاماً على هذا القرار التاريخي، يتابع جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني خطى الملك الباني يرحمه الله، في جعل القوات المسلحة من الجيوش المتقدمة، ومثالاً بين جيوش العالم في احترافيتها وانضباطها وقوتها، وحاملةً لرسالة الثورة العربية الكبرى، وتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمانها.
نبارك لشعبنا الأردني هذه النفحات اليعربية التي عززت امتلاكنا كأردنيين لعرى هذا الجيش العربي الأردني، وجعلتنا ننعم ببركاته وقدراته التي تبث الأمل في قلوب كل الأردنيين، بعدما قدموا مواكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكلنا شموع أمل وضياء حول قيادتنا، وجيشٌ رديفٌ حول جيشنا، وسياجُ عزة وفخار على حدود وطننا ....
عاش الوطن
وعاش القائد
والمجد والفخار لجيشنا العربي الأردني